نسرين موسى - النجاح الإخباري - كانت حياتهم مليئة بالحيوية والنشاط والأهداف، يخططون لمستقبلهم، ماذا سيدرسون؟ وفي أي الجامعات سيلتحقون؟ ومتى سيتزوجون؟ إلا أن ما تعرضوا له من قبل الاحتلال الإسرائيلي خلال مشاركتهم في مسيرات العودة، أدى بهم إلى الصدمة بعد أن رأوا أطرافهم مبتورة.

لم يكن ذنب هؤلاء المصابون، سوى أنهم شاركوا في مسيرات العودة بشكل سلمي للتعبير عن غضبهم من قرارات الإدارة الأمريكية اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتأكيداً على حق العودة لديارهم التي هُجروا منها قسراً من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وضرورة كسر الحصار الظالم عن قطاع غزة، الذي أنهك جميع مناحي الحياة.

مئات الشهداء وآلاف الجرحى كانت نتيجة مطالب المتظاهرون العادلة، حيث لم يعترف الاحتلال بالقوانين والأعراف الدولية التي أجازت حق التظاهر السلمي، ضارباً بها عرض الحائط، باستهدافه للشبان والأطفال والشيوخ والصحفيين والطواقم الطبية.

آثار نفسية مختلفة يعانيها المصابين مبتوري الأطراف، أثر على ممارسة حياتهم بشكل كامل. وروى الشاب العشريني إبراهيم البربار عن تجربته القاسية بعد إصابته التي أدت إلى عرقلة حياته قائلاً: "أصبحت أحتاج إلى المساعدة عند قيامي بأبسط الأشياء، وأعجز عن أخذ حمامي الساخن الذي تعودتُ عليه، حتى الخروج مع أصدقائي أصبح ثقيلاً على نفسي لأنني أعجز عن الحركة كما كنت في السابق. وأضاف:" كنت أحلم بمجموع عالٍ في الثانوية العامة هذا العام، متسائلاً كيف سأدرس؟ وكل تفكيري منحصراً في متى سأسافر حتى أحافظ على قدمي من البتر؟ وهل سأنجو وأعود كما كنت حيوياً في حركتي؟

وتابع.. تساؤلات كثيرة تراودني كلما هممت إلى الدراسة وحينها أترك كتبي وأخلد إلى النوم هروباً من التفكير.

البربار أصيب بطلق متفجر في قدمه، في أول جمعة لمسيرات العودة شرق جباليا، في آذار مارس.

وقال:" ما زلت أتجرع الألم يومياً في انتظار التحويلة الطبية للسفر لإنقاذ قدمي من البتر، مضيفاً:" لا تتوفر لدي الواسطة، وهذه الأيام لا شيْ يتم إلا بوجود الواسطة والمحسوبية".

ليس في وسع الشاب البربار إلا الانتظار، والحصول على طرف صناعي من مركز الأطراف الصناعية والشلل في غزة، حتى يمارس حياته نوعاً ما، إلى أن يحصل على تحويلة تنقذ قدمه.

وفي لقاء خاص مع مدير عام المراكز في بلدية غزة م. عماد صيام يقول: "نقدم في مركز الأطراف الصناعية الخدمات للمصابين في مسيرات العودة، كما غيرهم من المرضى، حيث جاءنا مئة وخمسة مصابين، منهم يحتاج إلى أجهزة مساندة، وستين حالة بتر.

يشدد صيام على سيطرتهم على الوضع ويشير إلى أن المصابين يتوجهون إلى مركزهم من جهات ومؤسسات رسمية.

وحول الصعوبات التي تواجههم في مساعدة المصابين يقول صيام" لا تواجهنا أي صعوبات سوى إدخال المواد الخام اللازمة في تصنيع الأطراف، ويقوم الصليب الأحمر بمساعدتنا والساهمة في إدخالها".

ولا يختلف المصاب مالك القانوع عن البربار في تأثير الإصابة سلبياً على حياته العامة، خاصة بعد اضطراره إلى ترك عمله.

القانوع أصيب في شهر مايو، حيث أدت الإصابة إلى تهتك في عضم قدمه، مما أدى إلى حدوث قُصر2سم فيها، أدى إلى صعوبة في ممارسة عمله.

يقول القانوع:" لم أتوجه إلى أي جمعيات أو مؤسسات لمساعدتي في حياتي، وأصبحت عصبياً إلى أبعد حد لأن حركتي أصبحت محدودة".

وتوقف المصاب العامل هاني الحلبي بعد إصابته عن المشاركة في مسيرات العودة، حيث أدت إصابته إلى عرقلة حركته ومكوثه في بيته دون عمل.

يقول الحلبي:" حالتي النفسية سيئة جداً، لأنني بت بلا عمل، ويقوم والدي بمساعدتي بما يستطيع".

ويؤكد حديث المصابين د.يوسف عوض الله مدير عيادة رفح النفسية ويقول: "لا شك أن المصابين "مبتوري الأقدام " يعانون من آثارٍ نفسيةٍ مختلفةٍ بعد البتر، وتكون الآثار النفسية ظاهرة وباطنة، بمعنى أن بعض المصابين المتورة أطرافهم تبدو عليهم آثار الصدمة جلية والبعض الآخر يستخدم الكبت كوسيلة دفاعية مما يفاقم الأمر.

ويضيف عوض الله:" حقيقة رأيت في حياتي العملية الكثير من المبتورين ممن لا يزال يرفض المثول لجلسات التفريغ النفسي الذي نطبقه، ولعل ذلك يرجع لعدم قناعتهم بجدوى هذه الجلسات بعد البتر، ومجرد الحديث عن البتر يربطهم بالماضي الأليم الذي خرجوا منه لتوهم ".

وحول الآثار التي يخلفها البتر يوضح عوض الله: "العديد من الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب النفسي، القلق النفسي، اضطراب ما بعد الصدمة، ولعل أخطرها هو الاكتئاب النفسي خاصة حينما يكون شديدًا حيث تتكون رغبة لدى المبتور في التخلص من الحياة بمعنى " الانتحار" .

ولا يزال المصاب المبتورة قدمه طلعت الفقعاوي يعاني الألم بعد بتر قدمه إثر رصاصة متفجرة من الاحتلال الإسرائيلي.

حولت الإصابة الفقعاوي إلى شاب لا يحب الخروج من البيت لأنه أصبح كما لفظها بقسوة "أصبحت معاقاً، لا أستطيع التمتع بما كنت أفعله سابقاً".

وحول معاناته بعد بتر قدمه يختصر الفقعاوي قوله: "هذا العكاز الذي يرافقني الأربع والعشرين ساعة يختصر قصتي!".

ويختم الفقعاوي: أسترجع ذكرياتي قبل الإصابة، ونشاطاتي التي كنت أحب القيام بها، والآن كل شيء أصبح ذكريات أعيشها مع الصور القديمة لي".

د. عوض الله يشدد على أن الصدمة هي كأس لا بد أن يشرب منه معظم المبتورين، ويقول: " بالمجمل قد تتسبب هذه الأعراض في مشكلات بالغة في المواقف الاجتماعية أو على صعيد العمل والعلاقات فمثلا تلازم المبتور ذكريات تأتي للعقل بشكل اقتحامي،  وهي عبارة عن ذكريات مؤلمة ومتكررة غير مرغوب فيها بخصوص حدث "البتر"، تغيرات سلبية في التفكير والمزاج، أحلام مزعجة عن الحدث الصادم.

وعن كيفية مواجهة الصدمة يشير عوض الله:" يجب محاولة تجنب التفكير أو التحدث بخصوص حدث " البتر" ، وكذلك تجنب الأماكن أو الأنشطة أو الأشخاص الذين يذكروننا بحدث " البتر"

وحسب عوض الله يصبح المبتور عديم الاهتمام بالأنشطة التي كان يستمتع بها سابقًا، ويراوده شعور باليأس من المستقبل، كما يعاني من الهياج ونوبات الغضب أو السلوك العدواني، ويصبح لديه حذر دائم من الخطر، ويعاني من اضطراب النوم.

وحول دورهم النفسي لمساعدتهم في تخطي الصدمة يقول د. عبد الله: "فئة المبتورين تحتاج لتأهيلٍ نفسي طويل الأمد، وبصراحة لقد رأيت في حياتي العملية أن استجابة المبتورين للتأهيل النفسي تختلف من شخص لآخر وفق حجم الألم في التجربة النفسية التي مروا فيها.

وتابع عبد الله:" أن أكثر التحديات التي تواجه هؤلاء هو تقبل الوضع الجديد والخروج من حالة الانغلاق على الذات و "السجن" النفسي والعمل بثقة لإجبار المجتمع على تقبله واحترامه من خلال ما يقدمه للمجتمع، ودورنا يكون من خلال جلسات الدعم النفسي الفردية والجماعية ، والتي ندرب المبتور خلالها على تمارين الاسترخاء، تمارين التأمل، رصد الأفكار السلبية، شجرة الحياة، وكذلك عقد جلسات توعية لأسرهم والمجتمع المحيط، وعليه يجب أن يؤهل آباء المبتورين تأهيلا يتوازى مع تأهيل أبنائهم، خاصة وأنهم عرضة للضغط النفسي الشديد بسبب إصابة أبنائهم وحاجتهم لتوفير المال والبيئة النفسية الجيدة لضمان علاجهم، كذلك ينبغي على المؤسسات والجمعيات الخيرية أن تقدم المشاريع الصغيرة لهذه الفئة كي تصبح منتجة فاعلة، وكي يتمكن من التغلب على الصراعات النفسية والمخاوف بشكل سريع، وينبغي على الجامعات ووزارة الصحة تدريب معالجين نفسيين كي يصبحوا مدربين للتعامل مع هذه الفئة.

وأمام التضحيات التي قدمها هؤلاء المصابين من أجل أهدافهم، يبقى السؤال المطروح لماذا يُترك هؤلاء المصابين دون توفير حياة كريمة لهم من قبل الجهات القائمة على المسيرات، علها تعوضهم عن فقدانهم أغلى ما يملكون؟