عبد الله عبيد - النجاح الإخباري - اثنان مليون فلسطيني يعيشون في شريط ساحلي ضيق، تحده من الشرق ومن الشمال الجدران الإسرائيلية، ومن الغرب بحر يحمل فوق أمواجه زوارق وبوارج مدججة بالسلاح، ومن الجنوب بوابة تفتح في العام يوماً أو يومين وهي المتنفس الوحيد للمحاصرين، حيث تذل الغزاوي، ولا تسلم من ظلم ذوي القربى.

11 عاماً والجميع ينهش قطاع غزة ما استطاع إليه سبيلاً، فمن حصار إسرائيلي مشدد عليه، إلى حروب دامية حرقت الأخضر واليابس إلى أزمات تصب على نار الحصار حصارا، تذيق اللاجئين المشردين فقرا وتجويعا، ولا ترحم شيبة عجوز غيّرت معالمه نوائب الدهر، ولا صرخة طفل ضاقت به الدنيا، ولا استغاثة مريض فتكت به الأوجاع.

بات المواطن الغزي يحلم بأدنى مقومات الحياة والعيش التي افتقدها طيلة سنوات الحصار، ليفكر ملياً بالهجرة إلى الخارج التي أصبحت حلم كل شاب غزي، لاستشراء البطالة وانتشار الفقر، وعدم الحصول على فرص عمل بعد التخرج من الجامعات.

لم يقف أمر الهجرة إلى دول العجم عند هذا الحد فقط، بل يضطر بعضُ الشباب الغزي إلى ترك عائلاتهم وزوجاتهم وأطفالهم إلى الأبد، ظناً منهم أن ظروف المعيشة في بلاد الغرب وأوروبا ستكون أفضل، وعدم التفكير بالعودة قطعاً.

وشهد قطاع غزة الشهر الماضي بعد فتح السلطات المصرية لمعبر رفح البري، هجرة عشرات الشباب باتجاه بعض الدول الأوروبية، وخاصة إلى تركيا وبلجيكا، ومن ثم الهجرة بطريقة غير شرعية إلى الدول الأوروبية.

وتفيد الإحصائيات وخلال الفترة الممتدة بين 12 من مايو/ أيار الماضي والعاشر من يونيو/حزيران نفذ من معبر رفح البري 11 ألفًا و455 مسافرًا فلسطينيًا في الاتجاهين من وإلى قطاع غزة، منهم 8 آلاف و937 مسافرًا عبروا من قطاع غزة إلى الجانب المصري ومنه إلى دول أخرى و2518 مسافرًا فلسطينيًا، عادوا من الجانب المصري إلى قطاع غزة.

الأوضاع المعيشية

الشاب سامي.ق (32 عاماً) هاجر غزة إلى بلجيكا قبل ثلاثة أعوام بسبب الأوضاع المعيشية الظنكة وعدم توفر فرص عمل، خصوصًا أنه تخرج من الجامعة منذ  عام 2010.

وقال الشاب سامي خلال اتصال هاتفي مع مراسل "النجاح": إن السبب الرئيسي لهجرتي قبل ثلاثة أعوام هي حماس، التي حكمتنا في غزة لكن لا توفر إلينا أدنى مقومات الحياة"، مشيراً إلى أنه لا ينوى العودة إلى غزة مطلقاً "حتى وإن أصبح القطاع جنة".

وأضاف " منذ 2007 وهو عام استلام حماس الحكم في غزة ونحن نعيش الويلات والحصار والحروب والأزمات تلو الأزمات وعدم توفر فرص عمل، لكن ما زاد الطين بلة علينا كشباب هي ما كانت تقوم به حركة حماس ضد الشباب في غزة، واعتقالهم وضربهم في حال قاموا بالتعبير عن آرائهم".

أما الشاب (م.أ) المهاجر إلى السويد بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة، فيرى أن غزة لا تصلح للمعيشة مطلقها، فبحسب وجهة نظره أن غزة تفتقر لأدنى مقومات الحياة " حتى الكرامة التي بقيت لنا قد انتهكت كلياً"، كما قال.

وأضاف في حديثه لـ"النجاح" أن أغلب الشباب الذين هاجروا من غزة إلى أي دولة أوروبية أو غربية، قد واجهوا مشكلات في بادئ الأمر"، مستدركاً "لكن الجميع الآن يعيش ومتوفر له فرصة عمل ومنهم من تزوج من فتاة غربية وأصبحت حياته أكثر مما كان يتخيل".

ودعا الشاب (م.أ) حركة حماس أن تتنحى من الحكم والسلطة وأن تسلم حكومة الوفاق مهماتها، لأن حماس على حد اعتقاده "لا تصلح أن تكون في الحكم، فهي من نكبت المواطن في غزة"، على حد تعبيره.

وكانت دراسة بحثية اقتصادية، قد أظهرت في النصف الأول من العام 2018 الجاري أن معدلات البطالة في قطاع غزة، تجاوزت نسبتها في أوساط الشباب (60%)، وفي صفوف النساء تجاوزت (85%). مؤكدة التدهور غير المسبوق في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تنذر بتفاقم المشكلات الاجتماعية.

وكانت الدراسة تحت عنوان "البطالة وآثارها على حقوق الإنسان" (الخريجون الجامعيون في قطاع غزة أنموذجاً)، وهدفت إلى التعرف على تداعيات مشكلة البطالة في قطاع غزة، ولا سيما في صفوف الخريجين الجامعيين وتأثيرها على حقوق الإنسان المكفولة في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

وأشارت الدراسة إلى أن الخريجين يواجهون انتهاكات منظمة لحقوقهم، كالحق في العمل، والحق في الصحة، والحق في مستوى معيشي ملائم، والحق في السكن، والحق في الرعاية الصحية، والحق في الزواج وتكوين أسرة، وحرية الرأي والتعبير، والحق في المشاركة السياسية، والحق في مواصلة التعليم العالي.

وعلى صعيد الآثار النفسية والاجتماعية في أوساط الخريجين،  فقد سادت حالة من الإحباط، والقلق، والتوتر الدائم، وتولد شعور في أوساط الخريجين  بأنهم أصبحوا عبئاً على الأسرة والمجتمع. بالإضافة إلى ظهور الفوارق الاجتماعية. كما تعزز الشعور بغياب المساواة وتكافؤ الفرص، وعزوف كثير من الشباب عن الزواج بسبب عدم توفر الإمكانات المادية، وارتفاع معدلات الطلاق، وزعزعة الانتماء للوطن، إذ شكلت عوامل البطالة والفقر والفراغ عاملاً مساعداً لالتحاق بعض الخريجين بالجماعات المتطرفة الغريبة عن قيم وثقافة المجتمع، والتفكير المتزايد في الهجرة الخارجية نظراً لانسداد أفق إيجاد حلول للمشكلات الاقتصادية والسياسية، ونفاذ قدرتهم على تحمل هذه الظروف الكارثية.

هجرة الكفاءات

خلال شهر رمضان الماضي في مايو/ أيار الماضي قامت السلطات المصرية بفتح معبر رفح البري طيلة الفترة السابقة، هاجر خلالها العديد من الشبان الغزيين سواء العاملين الذين يبحثون عن فرصة عمل توفر لهم الربح الأكثر، أم الخريجين الذين يبحثون عن أي عمل.

وسلّطت الإذاعة الإسرائيلية العامة في تقرير لها امس الثلاثاء، الضوء على "هجرة العقول والكفاءات" من قطاع غزة مؤخرًا خلال فترة فتح معبر رفح البري بتعليمات من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.

وادعت الإذاعة في مستهل تقريرها إن "هناك إقبالاً مخيفًا على الخروج من قطاع غزة، ليس وسط شريحة مجتمعية معينة بل يكاد هذا الإقبال يلامس كل شرائح المجتمع الغزي ويحل بكل بيت فيه"، موضحًة أن "غالبية من أقدموا على الخروج من غزة دفعهم لذلك سوء الأوضاع المادية والمعيشية والاجتماعية فيها، وعدم توفر فرص عمل جيدة ومناسبة تحقق الحياة الكريمة.

وتناولت الإذاعة الإسرائيلية مسألة هجرة العقول، قائلةً في تقريرها : "المخيف في الهجرة الغزاوية تفشيها في أوساط الأكاديميين وذوي الشهادات العليا وأصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين"، مشيرة إلى "هجرة أكثر من 50 طبيبًا متخصصًا ممن يشهد لهم بالكفاءة والخبرة الطبية"، معتبرةً أنه "لا يمكن للقطاع الطبي تعويضها وليس من السهل بناؤها لدى الأطباء الجدد، خصوصًا أن القطاع مغلق في وجه الوفود الطبية الخارجية التي يمكن بحضورها تعويض النقص الحاصل في الخبرات والكفاءات، ومغلق أيضًا أمام ابتعاث أطباء للخارج للمشاركة في المؤتمرات والدورات العلمية".

ووفقاً للتقرير فإن الطبيب "م. ك "، الذي فضل عدم ذكر اسمه أوضح أنه تقدم بطلب استقالة من المستشفى التي يعمل بها، نظراً لتدني الرواتب التي يحصل عليها الأطباء وغيرهم من الموظفين في غزة، لافتاً إلى أن ينوي السفر للخارج، حيث يمكنه أن يجد فرصة عمل أفضل كي يعيل أسرته منها، بعد أن أثقلته الديون التي تراكمت عليه بسبب سوء الحال والوضع الاقتصادي الذي وصل اليه القطاع.

وأشار إلى أن "هناك الكثير من الأسباب أجبرت الشباب والعقول الفلسطينية إلى الهجرة من قطاع غزة، بسبب ضيق العيش، وفقدان إنسانيتهم وكرامتهم، ومعنى الحياة الكريمة، فخرجوا ليبحثوا عن مكان ينصفهم بعد أن خذلهم ذوو القربى".

انسداد الأفق

من جهته، يرى أستاذ علم النفس في جامعة الأقصى، درداح الشاعر أن انسداد الأفق أمام الشباب في قطاع غزة، زاد من دوافع الهجرة لديهم، مشدداً على أن أبواب الهجرة لا زالت مفتوحة لدى الشباب إذا لم يتغير الحال في غزة.

وأشار الشاعر في حديثه لـ"النجاح" إلى أن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والأمنية في غزة غير مرضية لجميع الشباب، وتمثل عوامل طرد لهم من بلادهم.

وأضاف " أتوقع أن تزيد الهجرة خلال الأيام والسنوات القادمة إن لم تكن هناك انفراجة على المستوى السياسي والاقتصادي وإذا لم ينتهي هذا الانقسام البغيض"، مطالباً القيادة بضرورة تدارك مدى خطورة هجرة الشباب والعقول والكفاءات خارج البلاد.

الجدير بالذكر، أن تمسك حركة حماس بمواقفها بعدم السماح لحكومة الوفاق الوطني بالتمكين في قطاع غزة، زاد من صعوبة الأوضاع، لعدم قدرة الحكومة على تنفيذ رزمة التسهيلات والمشاريع التي تنوي إقامتها في القطاع.