نابلس - عقل أبو قرع - النجاح الإخباري - مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في قطاع غزة، بعد حوالى 11 يوماً من القصف ومن إلقاء القنابل والصواريخ مع ما تحويه من مواد كيميائية قديمة وجديدة ومن كل الأنواع، يبدأ تقييم ما حدث من دمار وتداعيات، ورغم أنه سيكون من السهل تحديد أعداد الشهداء والجرحى والمفقودين، وعدد البنايات والمنازل التي تم هدمها أو قصفها، ونوعية البنية التحتية من شوارع ومصانع وشبكات مياه وكهرباء التي تضررت.
إلا أنه وفي خضم ذلك فإن التداعيات بعيدة المدى، سواء أكانت صحية أو بيئية، سيكون من الصعب تحديدها أو التعامل معها الآن، وبالأخص وأنه حسب الصحافة الإسرائيلية، فقد تم استخدام أحدث أنواع الأسلحة وما تحويه من مواد كيميائية جديدة من الصناعات العسكرية الأميركية والإسرائيلية، خلال العدوان.
ومن المعروف أن الأوضاع البيئية في قطاع غزة وما يرتبط بها من تداعيات صحية على شكل أمراض ووفيات، هي أوضاع قاتمة قبل هذا العدوان الاخير، سواء من حيث تلوث المياه وجلها مياه جوفية، والهواء والتربة والمياه العادمة واستخدام المبيدات في الزراعة المكثفة أو من خلال الكثافة البشرية الهائلة التي من الصعب أيجاد مثلها في العالم.
حيث وحسب ما شاهدنا وببساطة خلال الأيام الماضية، فقد تم القاء مئات الاطنان من المواد المتفجرة على قطاع غزة وما تحويه من مئات او الآلاف من الكيلوغرامات من الكيماويات المختلفة، التي تكون او ستكون قد وجدت طريقها الى الأرض والجو والمياه والطعام والبشر في غزة، في تلك البقعة الجغرافية الضيقة، اي الى قطاع غزة، بمدنه وقراه ومخيماته.
ومعروف ان قطاع غزة بأكمله، من بيت حانون الى جباليا ومدينة غزة ودير البلح وخان يونس ومن ثم الى رفح، لا تزيد مساحته على حوالى 365 كيلومتراً مربعاً، وان عدد سكانه يبلغ حوالي مليوني شخص، وبالتالي هو من اكثر بقاع الارض اكتظاظاً بالسكان، ان لم يكن اكثرها، حيث يعيش في الكيلومتر المربع الواحد حوالي 5000 شخص، ومعروف كذلك ان المصادر الطبيعية الفلسطينية في غزة ، من مياه وتربة وارض او حيز هي محدودة، وبأن هذه المصادر، وبالأخص في قطاع غزة هي ليست بالحال الأفضل، سواء أكانت المياه الجوفية، او التربة، او تلوث مياه البحر، او الحيز الجغرافي من حيث انتشار النفايات الصلبة والمياه العادمة، وانتشار السيارات القديمة، وبالتالي امكانية تلوث الهواء، وكذلك ضعف او غياب القوانين البيئية الملزمة وضعف التوعية البيئية الكفيلة لايلاء البيئة في غزة الاهتمام الكافي.
ومن ضمن التأثيرات البيئية المتوقعة وبعيدة المدى للحرب على غزة،احتمالات تلوث المياه، ومعروف ان اكثر من 95% من المياه في بلادنا هي مياه جوفية، وقبل الحرب الحالية، اشارت تقارير الى ان اكثر من 90% من المياه في غزة مياه ملوثة، ولا تصلح للاستخدام البشري حسب المعايير الدولية، وتتلوث المياه في غزة بالمواد الكيميائية، سواء الناتجة من المياه العادمة، او من المبيدات والاسمدة الكيميائية، او من مشتقات البلاستيك والمواد الصناعية الاخرى، ومن ثم تتسرب من خلال التربة الرملية الى مصادر المياه الجوفية، وبعد هذه الحرب يمكن تصور الكميات الكيميائية الهائلة التي أضيفت الى التربة في غزة، وبالتالي احتمالات وصولها الى مصادر المياه، ومن ثم زيادة الوضع سوءاً بالمقارنة ما كان عليه قبل الحرب.
وشاهدنا من خلال الصور على التلفزيون وغيره، سحب الدخان الهائلة بما ما تحويه من مواد كيميائية سامة، والتي كانت تتصاعد الى الهواء، اي الى هواء غزة، ومن ثم احتمال تلويثه، وبالاضافة الى ذلك فإن معظم بقايا المواد التي تم إلقاؤها على غزة تبقى في التربة او على الارض، وبالتالي تزيد من معضلة النفايات الصلبة وفي هذه الحالة النفايات الصلبة الكيميائية الخطيرة، وكذلك ومن خلال تراكمها في التربة تحد وبالتدريج من خصوبة هذه التربة، وبالتالي تحد من قدرتها على انتاج الطعام او الزراعة فيها، ومن المحتمل كذلك ان تصل هذه المواد الكيميائية بشكل مباشر او غير مباشر الى الغذاء الذي سوف يتم استهلاكه من الناس وما الى ذلك من آثار صحية، وبالأخص آثار صحية بعيدة المدى.
حيث تشير التقارير السنوية الاخيرة لوزارة الصحة الفلسطينية، إلى أن امراض السرطان على سبيل المثال تشكل السبب الثاني للوفاة في فلسطين، سواء في الضفة الغربية او في قطاع غزة، وتزداد نسبة هذه الامراض كل عام بشكل واضح ومزعج، ومن الواضح ان هناك عوامل بيئية خارجية تدخل على النظام البيئي الفلسطيني، يمكن انها تساهم في هذا الازدياد، سواء اكانت هذه العوامل ملوثات كيميائية او غيرها، وسواء جاءت نتيجة الاستخدام الزراعي او الصناعي، او ربما بفعل عوامل اخرى، منها الحروب الاخيرة على قطاع غزة في الاعوام 2008 و2012 و2014 والآن في عام 2021.
ومع الارتفاع المطرد في حالات الاصابة بمرض السرطان في قطاع غزة قبل هذا العدوان، يعود الحديث مرة اخرى عن متبقيات او عن الملوثات الكيميائية المختلفة، التي تخلفها الحروب المتكررة على قطاع غزة، وبالطبع سيكون من ضمن ذلك الحديث عن احتمال استخدام اليورانيوم المنضب خلال الحرب الأخيرة على غزة، وما لذلك من عواقب صحية وبيئية قد تكون بعيدة المدى، وللعلم فإن استخدام اليوارنيوم المُنضب قد تم الإشارة إليه سابقاً، وخاصة خلال الحرب في العراق وفي حرب الخليج الاولى، أو في الحرب في كوسوفو، وقد جرت دراسات وابحاث من اجل تبيان مدى بقائه في البيئة وآثاره على الإنسان، وبالأخص الآثار بعيدة المدى، التي من الممكن ان تنعكس على شكل امراض مزمنة.
حيث يعتبر اليورانيوم المنضب هو احد العناصر المعدنيه الثقيلة، اي انه عنصر معدني يمكن قياسه على هذا الاساس، او عنصر مشع، وهو ذو كثافة مرتفعة، حيث تبلغ كثافته 1.6 مرة كثافة الرصاص، ويُعتبر اليورانيوم المنضب أحد النواتج الجانبية لعملية تخصيب اليورانيوم، وتعتمد سميتِّه على نوعية المركب الموجود فيه وعلى ذائبيته في المياه، حيث كلما ازدادت ذائبيته ازدادت سميته، ويدخل اليورانيوم المنضب إلى الجسم من خلال الجلد أو العيون أو عن طريق الجهاز التنفسي من خلال الاستنشاق، وينتقل من الأم الحامل إلى الجنين من خلال المشيمة، وينتشر في أعضاء الجسم المختلفة ويتم التخلص منه من الجسم عن طريق البول.
ومن الأضرار الصحية الآنية للتعرض إلى اليورانيوم المنضب التأثير على عمل الكلى وعلى الجهاز التنفسي وقد يؤدي الى الموت، ويسبب كذلك السعال المزمن، وحصوات في الكلى، أما على المدى البعيد فقد يؤدي إلى سرطان الرئة والعظام، وأشارت بعض الدراسات إلى أن التعرض إلى اليورانيوم المنضب أدى إلى التأثير على الكلى وإلى إحداث تشوهات في العظام، وتغييرات عصبية، ونقص حاد في نسبة الحمل في الفئران التي تم تعريض اليورانيوم المنضب لها، وكذلك تأثيرات على الجهاز العصبي والتناسلي، وتزداد خطورة اليورانيوم المنضب اذا تم التعرض له وبشكل مشترك مع مواد كيميائية أخرى.
أما التأثيرات البيئية لاستعمال اليورانيوم المنضب فهي وخيمة، ويمكن أن يبقى في البيئة لمئات وربما لآلاف السنين، حيث يتراكم في التربة وينتقل في النظام البيئي، ويتحلل ببطء شديد، وبالتالي فإن عملية التخلص منه تبدو غير عملية على الإطلاق.
وفي خضم كل ذلك، فإنه وان كان الوضع البيئي في قطاع غزة، قبل بدء الحرب، من السهولة وصفه بالوضع الكارثي، يمكن تصور الكارثة البيئية القادمة بعد وصول مئات الآلاف من المواد الكيميائية الى النظام البيئي في غزة خلال هذا العدوان، ولذا فإننا سنكون الأحوج الى اعتبار الأوضاع البيئية في غزة من الأولويات الوطنية، سواء أكان ذلك من قبل الجهات الرسمية او من قبل المنظمات المحلية والدولية الفاعلة في مجال البيئة، وبالأدق الآثار البيئية بعيدة المدى المتوقعة من تلك الحرب.