جواد بلس - النجاح الإخباري - ردت المحكمة العليا الإسرائيلية يوم الثلاثاء المنصرم التماس الأسير الفلسطيني ماهر الأخرس، ابن قرية سيلة الظهر التابعة لمحافظة جنين، ورفض قضاتها الثلاثة طلب محاميته الإفراج عنه، بسبب تردّي حالته الصحية ووصولها إلى مرحلة تنذر باحتمال موته الفجائي في كل لحظة؛ حسب إفادات الأطباء، الذين يتابعون مسيرة إضرابه عن الطعام، التي بدأها في يوم اعتقاله في السابع والعشرين من تموز/يوليو الماضي، والإعلان عن حبسه إداريًا لمدة أربعة أشهر، من المفروض أن تنتهي في السادس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.

لم يفاجئ القرار كل من يعمل في الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين، لاسيما من دافعوا عمن خضعوا لتجربة الاعتقال الإداري، وحاولوا طيلة خمسة عقود، الاستجارة بعدل محكمة فُوّضت، عن خبث، بصلاحية استقبال التماسات المتظلمين الفلسطينيين ضد سياسات الاحتلال، وسلّمت عن تخطيط مسبق، مهمة لتسويغ ممارسات الاحتلال ولفها بأوراق من عدل زائف وتسويقها، في رحاب العالم المتحمس لإجارة إسرائيل «الضحية» كبيّنة لكونها دولة منصفة بحق الجميع، حتى بحق ألدّ أعدائها الذين يقاومونها ويعتدون على سلامة شعبها بالكلمة وبالسكين وبالمولوتوف.

كانت هذه في الواقع جولة الأسير الأخرس الثالثة، التي حاول فيها، في أقل من شهر، أن يقنع المحكمة بضرورة الإفراج عنه لأسباب صحية، لكنه لم يحصد في جميعها مبتغاه؛ بل واجه ما واجهه في الماضي إخوانه ممن خاضوا مثله إضرابات طاحنة عن الطعام، ووصلوا، مثله أيضًا إلى حلق القدر، ولم تسعفهم نزاهة المحكمة؛ بل أكد تصرف جميع قضاتها وفاءهم للدور، الذي كان مرسوما لهم، وإنهم فعلًا ذراع الاحتلال الطولى وجنوده «الحكماء» الذين يعرفون كيف يبيعون ظلم احتلالهم للشعب الفلسطيني، حتى لو كان عاريًا، في أسواق «ضمائر الأمم» الفاسدة، ويقلبون الحقائق في مسارح العبث، وينالون إعجاب النخب وفقهاء الشعوب «المتحضرة».

لقد شهدت نضالات الحركة الأسيرة الفلسطينية، على طول مسيرتها، إضرابات قاسية عن الطعام، برزت من بينها، في آخر عقدين، ظاهرة الإضرابات الفردية، حيث وصلت حالات بعض المضربين إلى منطقة الخطر الحقيقي، كما هي حالة ماهر الأخرس في هذه الأيام؛ ورغم ما كان يتوقعه كل صاحب ضمير من قضاة يخدمون في محكمة سميت مجازًا «محكمة العدل العليا» فقد تصرف القضاة بدون حرج أو ضيق، وأوجدوا بدهاء لافت وغير مسبوق، مخرجًا قضائيًا هدفه إسعاف قادة جيش الاحتلال وجهاز المخابرات العامة، حين اخترعوا تقنية «تعليق» نفاذ أمر الاعتقال الإداري الذي كان يواجهه الأسير ساعة وصوله إلى لحظة الصفر؛ فعلقوا أمر اعتقاله، لكنهم قضوا بابقاء المضرب في المستشفى نفسه بصفته مريضًا يخضع للعناية الطبية والمراقبة، إلى أن يرتقي نحو سمائه أو يستعيد عافيته، فعندها يحق للقائد العسكري إحياء أمر الاعتقال مرة أخرى. إنها فذلكة جهنمية أفضت عمليًا إلى إبطال منزلة الفلسطيني، المقاوم بخواء معدته، وحوّلته من أسير حرية إلى مجرد مريض وشبه منتحر بإرادته، علمًا بأنه محجوز في قفص «عدلهم» ولا يملك حق اختيار أطبائه ولا مشفاه.

وحدة الحركة الأسيرة شرط لنجاح نضالات أفرادها الجماعية والفردية، واتفاقهم على آليات نضالهم، سيبقى ضرورة مصيرية ومسؤولية وطنية عالية

حاول القضاة إغواء الأسير الأخرس، وإقناعه بإيقاف إضرابه مقابل الالتزام بعدم تمديد أمر اعتقاله بعد السادس والعشرين من نوفمبر المقبل، وعندما رفض الأسير عرضهم قاموا برد التماسه، بعد أن قام القاضي سولبرغ كاتب القرار، باستعراض حيثيات ما جرى قبل تلك الجلسة، مؤكدًا على أن هيئة سابقة من ثلاثة قضاة كانت قد علقت، في الثالث والعشرين من شهر ايلول/سبتمبر المنصرم، أمر الاعتقال الإداري الصادر بحقه، وابقوه في مشفى «كابلان» في مدينة رحوبوت، كمريض بدون أصفاد. كان قرارهم، كما قلت، متوقعًا، فهذه التقنية صارت في حكم السابقة القضائية الملزمة، ولن يشذ عنها أي قاض من قضاة المحكمة، فما بالكم إذا كان اثنان من هيئتها، التي أصدرت حكمها قبل أيام، مستوطنين يعيشان على أرض فلسطينية محتلة، وشغل ثالثهم منصب مستشار الحكومة القضائي زمن وقوع أحداث اكتوبر من عام 2000 الدامية. شهدنا، بعد صدور القرار، ردود فعل متزنة على الساحة الفلسطينية، فقادة السلطة الفلسطينية وبعض المؤسسات الناشطة في الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين، وعن حقوق الإنسان شجبت بحرقة قرار المحكمة الإسرائيلية واتهمت القضاة بأنهم يشرّعون عمليًا قتل المواطن الفلسطيني، حتى لو لم يكن متهمًا بأي تهمة، ولم يُدن في محكمة عادية، ونادوا بوجوب وقف سياسة الاعتقالات الإدارية المنافية لجميع المواثيق الدولية؛ بينما ذهب قادة حركة الجهاد الإسلامي، التي ينتمي اليها الأسير ماهر الأخرس، كما جاء في نص أمر الاعتقال الإداري، إلى تهديد اسرائيل بإمطارها بالقذائف، إذا لم تفرج عن الأسير، أو إذا حدث له أي مكروه. وتحرك نواب القائمة المشتركة داخل الساحة الإسرائيلية، وزار بعضهم الأسير في مشفاه متضامنين معه، وشاركوا مع قيادين آخرين، كرئيس لجنة المتابعة، محمد بركة، في وقفة متواضعة دعت إليها اللجنة امام المستشفى، وفي وقفات أخرى شاركت فيها اعداد من الناشطين والمحتجين. بدأ الاسرى الفلسطينيون في السجون الاسرائيلية باتخاذ بعض الخطوات الاحتجاجية وأعلنوا عن نيتهم تصعيد نضالاتهم حتى يتم الإفراج عن الأسير. في المقابل، طغى صمت الشارع الفلسطيني على المشهد العام وغابت تلك الطفرة الشعبية والعالمية التي شهدناها قبل سنوات، مع بداية

نشوء ظاهرة الإضرابات الفردية، كتلك التي رافقت إضراب الشيخ خضر عدنان، ومن أضربوا بعده مباشرة في تلك التجربة المهمة. يسألني البعض، عن خوف ومرارة، عن مصير ماهر الأخرس، وعن موقفي من ظاهرة الإضرابات الفردية، فأجيب، أن إسرائيل، بمؤسساتها الأمنية والقانونية، ستبقى المسؤولة عن حياة ماهر وعن سلامته، وسنعمل أنا وزملائي بإصرار من أجل الإفراج عنه؛ لكنني مازلت لا استوعب متى سيقرر الفلسطينيون إعادة النظر باستمرارهم في طرق «ضمير» المحكمة العليا الاسرائيلية، فأنا لا أفهم ماذا ينتظر مقاوم يصرخ: إما الحياة بكرامة وبحرية وأما اللاحياة، من قضاة يرونه «مخربًا» وحسب، ويعتبرون احتلالهم لأرضه تحريرًا واستعادة لحق رباني أُعطوه منذ الأزل.

لم اكن يومًا من أصحاب المواقف المطلقة، فقد أكدت سابقًا وأوكد اليوم على أن الاضرابات الفردية هي أداة مشروعة من أدوات النضال والاحتجاج ضد الاحتلال، التي لجأ إليها الأسرى في الماضي والحاضر؛ وهي أداة أن أجيد استعمالها تؤدي حتمًا إلى إحراز نجاحات وإلى تحقيق ما وراءها من مطالب، ولهذا فأنا لست من أنصار نفيها بالمطلق، ولا إجازتها بالمطلق. ستبقى منفعة استعمالها مقيدة بتعريف الهدف والمطلب اللذين من أجلهما يعلن الإضراب، بعد الأخذ بجميع الظروف المحيطة بزمن ومكان إعلانه؛ فكلما كان الهدف محددًا وواضحًا وواقعيًا، ومن الممكن تحقيقه، سيحظى الإضراب الفردي بإجماع أوسع وبمساندة أصلب. ومن المهم أن يكون الإضراب الفردي من أجل هدف يتعدى مصلحة معلنه الضيقة، فيجب الانتباه كي يخدم نجاح ذلك الفرد بإضرابه مصالح مجموعة أو فئة أو مجمل الحركة الأسيرة؛ وكذلك من المهم أن ينأى المضرب عن تسخير خطوته من أجل مصالح فصيله أو حزبه، كما على فصيله أو حزبه السياسي، بالمقابل، ألا يركبا على كتف هذا الأسير وترصيد ريع نضاله في حسابات بعيدة عن مصالح وحدة الحركة الاسيرة ككل.

واكبت عذابات الحركة الأسيرة ونضالاتها على مدار أربعين عامًا، وتيقنت أنها إفراز طبيعي لحالة غير طبيعية، فما دام الاحتلال موجودًا سيبقى من يقاومه وسيبقى أسرى للحرية في السجون الاسرائيلية. لقد علمتنا تجربة البنائين الأوائل، بخسائرها وإنجازاتها، أن وحدة الحركة الأسيرة هي شرط مؤسس لنجاحات نضالات أفرادها الجماعية والفردية، وأن اتفاقهم على آليات نضالهم، وبضمنها الإضرابات الفردية، سيبقى ضرورة مصيرية ومسؤولية وطنية عالية. يختلف البعض على صحة الخطوة ويصر آخرون ألا يسمعوا صراخ هذا «الاخرس»؛ ويسعى غيرهم للاستثمار سياسيًا في شقائه أو على النقيض، تقويض تداعياته؛ لكن الحقيقة تبقى، كما كانت، بعيدة عن جميع مصالح أولئك؛ فماهر وأمثاله يجوعون من أجل الحرية والحياة بكرامة.

 

نقلاً عن القدس العربي