أحمد عيسى - النجاح الإخباري - تسعى هذه المقالة وهي الثالثة التي تتناول اتفاق الثالت عشر من آب 2020 بين إسرائيل ودولة الإمارات، إلى محاولة استشراف مكانة منظمة التحرير الفلسطينية في مرحلة ما بعد إتمام الاتفاق وبناء التحالف بين البلدين كمقدمة لبناء التحالف العربي الإسلامي الإسرائيلي الأمريكي في المنطقة، لا سيما أن نجاح الإتفاق في تحقيق مقاصده يتطلب إعادة صياغة العقل العربي وفق متطلبات المرحلة الجديدة التي بات يرفع راية قيادتها النظام العربي (الملكي)، بعد أن فشل النظام العربي (الجمهوري) في تحقيق الشعارات التي رفعها، ما أدى إلى سقوطه وانهياره تحت ضغط موجات الغضب الشعبي التي اجتاحت البلدان العربية (الجمهورية) في مطلع العقد الجاري ضمن ما بات يعرف بالربيع العربي.

وفي هذا الشأن ترى هذه المقالة أن إعلان الرئيس ترامب يوم الخميس الموافق 13/ 8/ 2020 اتفاق أبراهام (سيدنا إبراهيم) الذي اتفق بموجبه الرئيس الأمريكي ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وولي العهد الإماراتي محمد بن زايد على بناء سلام حامِ بين شعبي الدولتين، قد شكل صدمة للأمتين العربية والإسلامية، وفي مقدمتهما الشعب الفلسطيني، تشبه تلك الصدمة التي أحدثتها زيارة الرئيس السادات لإسرائيل العام 1977، لبدء مسيرة إنهاء حالة الحرب وإحلال حالة السلام بين البلدين.

وكما خرجت الجماهير العربية والإسلامية للشوارع غاضبة منددة بزيارة الرئيس السادات في حينه، إرتفعت الأصوات العربية والإسلامية، لا سيما الفلسطينية معبرة عن سخطها وغضبها على قرار الإمارات المنفرد.

وبينما ما زالت الأصوات المنددة بالقرار الإماراتي تتعالى، إلا أن أُولى الأمر في الإمارات يبدو أنهم مصممون على الذهاب في هذا الإتجاه حتى مداه النهائي المعلن بإقامة سلام حامِ مع إسرائيل مختلف عن النموذج المصري والأردني الذي ظل من نوع السلام البارد، الأمر الذي يمكن الاستدلال عليه من خلال إصدار رئيس الإمارات الشيخ خليفة بن زايد يوم السبت الموافق 29/ 8/ 2020، المرسوم الاتحاي رقم (4) لسنة 2020، الذي ألغى بموجبه المرسوم الاتحادي رقم (15) لسنة 1972 القاضي بمقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات صارمة على كل من يخرق المقاطعة من الإماراتيين.

ثم من خلال هبوط طائرة البوينغ 737 التابعة للخطوط الجوية الإسرائيلية (ELAL) يوم الإثنين الموافق 31/ 8/ 2020، في رحلتها رقم 971 وهو النداء العالمي للرحلات التجارية المتجهة من تل أبيب لأبوظبي، مدشنة بذلك افتتاح الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين مروراً بالأجواء السعودية، حيث كان على متن الطائرة فريق أمريكي برئاسة كوشنير، وكل من مستشار الأمن القومي الأمريكي روبرت أوبرين، ومبعوث البيت الأبيض للسلام في الشرق الأوسط أفي بيركوبتش، والمبعوت الأمريكي الخاص بالملف الإيراني براين هوك، وترأس الفريق الإسرائيلي مستشار الأمن القومي مئير بن شابات ومعه المدراء العامون لمكتب رئيس الوزراء، ووزارات الخارجية والدفاع والصحة، كما كان على متن الطائرة حشد كبير من الصحفيين والإعلاميين الإسرائليين والأمريكان الذين احتشدوا على حد وصفهم لتغطية هذا الحدث التاريخي.

وعلى ذلك تجادل هذه المقالة أن دولة الإمارات لم تنقلب باتفاقها هذا على الإجماع العربي والإسلامي الذي عبرت عنه مبادرة السلام العربية وحسب، بل هي انقلبت بالأحرى على الماضي بكل ما حمله من إرث فكري وثقافي قامت عليه الرؤية العربية والإسلامية المعادية لإسرائيل، التي قادت إلى اندلاع أكثر من عشر حروب طاحنة في المنطقة، وأدت إلى اندلاع انتفاضتين فلسطينيتين كبيرتين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

من جهتها لا تخفِ دولة الإمارات انقلابها هذا، بل تبرره وتدافع عنه، الأمر الذي يتجلى أيما تجلي في تصريحات كبار المسؤولين في الدولة، خاصة في تصريحات الوزير أنور قرقاش لشبكة CNN الأمريكية يوم السبت الموافق 15/ 8/ 2020، التي قال فيها: "من الواضح أن 70 عاماً من عدم التواصل مع إسرائيل، لم يقودنا إلى أي مكان، ولذلك يجب التحول لطريقة جديدة".

في الواقع يشير هذا الانقلاب ومباركة بعض الدول العربية الرئيسية له، واصطفاف البعض من السياسيين والإعلاميين وعلماء الدين لتبريره، إلى تحولات عميقة قد جرت في السنوات الأخيرة في الرأي العام العربي والإسلامي، فضلاً عن إشارته إلى تغيرات جذرية قد أدخلت على محركات صنع السياسة لدى الأنظمة الحاكمة، الأمر الذي يستدعي من الأطراف العربية والإسلامية المستهدفة أو المتضررة من هذه التحولات والتغيرات، وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني، الوقوف على هذه التحولات لاستكناه أسبابها ودوافعها ومآلاتها القريبة والبعيدة، كشرط أساسي يسبق تطوير التدخلات الأنسب للتقليل من مخاطرها، لأن تجاهلها والإكتفاء بتفسيرها بإحالتها لنظرية المؤامرة، أو الإكتفاء برفضها من خلال رفع الأصوت الغاضبة، ينطوي على إحتمالات عالية بأن تنزلق الأمور من السيئ للأسوأ.

ومن أبرز التحولات التي علت للسطح في السنوات الأخيرة، ذلك التحول المتمثل في هبوط درجة إهنمام المواطن العربي في القضبة الفلسطينية، وذلك بعد أن كانت القضية الفلسطينية قبل عقدين من الزمن تعادل في أهميتها الأولويات الاقتصادية والصحية للمواطن العربي، خاصة في دول مثل مصر والسعودية والأردن والإمارات، الأمر الذي يجعل من مواصلة تبني نفس السياسات دون معالجة أسباب الهبوط أمراً ينطوي على خداع للذات.

اللافت هنا أن المؤشرات الدالة على هذا الهبوط وربما المفسرة له متوفرة في وسائل الإعلام وفي متناول الجميع، الأمر الذي يجعل من عدم تطوير ما يلزم من تدخلات لوقف هذا الهبوط أو الحد من تداعياته على السياسات الفلسطينية أمر ينطوي على تقصير وربما فشل.

ففي سعيها لتعقب وفحص أسباب هبوط درجة إهتمام المواطن العربي بالقضية الفلسطينية، نفذت مؤسسة زغبي للأبحاث (ZRC) التي تتخذ من نيويورك مقراً لها، مجموعة من إستطلاعات الرأي في دول المنطقة العربية في السنوات الخمس الماضية، وكان السيد جيمس زعبي الذي يدير هذه المؤسسة قد نشر مقالاً يوم الأربعاء الموافق 26/ 8/ 2020، على موقع موندوويس الأمريكي المناصر للقضية الفلسطينية، ذكر فيه أن نتائج استطلاعات الرأي التي نفذت في كل من مصر والسعودية والأردن والإمارات في الآونة الأخيرة تظهر أن الغالبية العظمي من المواطنين في هذه الدول تحمل كل من أمريكا وإسرائيل مسؤولية الفشل في حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً، وعلى الرغم من ذلك وفقاً لنتائج الإستطلاعات، ترى نسبة ملحوظة من هذه الأغلبية أنه يتوجب على الحكومات العربية تطوير مبادرة السلام العربية لإقناع إسرائيل ببنودها، وأضاف الزغبي في مقاله أن النتيجة الصادمة التي أظهرتها هذه الإستطلاعات تمثلت في عدم معارضة نسبة مهمة من المواطنين في هذه الدول، إقدام بعض الدول العربية على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل حتى قبل التوصل لإتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

وبعد فحص اسباب عدم معارضة التطبيع من قبل المستطلعين، وضح الزغبي أن نتائج الإستطلاع تظهر أن عدم المعارضة تعود لإحباط المواطنين من فشل الدول العربية في تحقيق حل عادل للفلسطينيين، علاوة على قلقهم من الكلفة المادية والبشرية العالية لإستمرار الصراع، كما أضاف الزغبي أن المواطنون العرب يأملون أن يعزز التطبيع موقف العرب مقابل إسرائيل بما يمكنهم من القدرة على تأمين حقوق الشعب الفلسطيني.

أما من حيث التحولات الفكرية التي أسست بدورها لتغير جذري في محركات صنع السياسة العربية، فتجادل هذه المقالة مرة أخرى أن هذه التحولات قد وصلت إلى ذروتها مع إندلاع موجة ما يسمى بالربيع العربي، الذي أسقط من جهة أنظمة الحكم الجمهوري في الوطن العربي، وجاء من جهة ثانية بحركة الإخوان المسلمين (المحافظة) كبديل لهذه الأنظمة، وحول من جهة أخرى المنطقة العربية إلى مكان لجذب وتفريخ الإرهاب، لا سيما بعد الإعلان عن تأسيس الدولة الإسلامية في سوريا والعراق (داعش) العام 2014، الأمر الذي عبد الطريق وفتح الأبواب على مصراعيها لتقدم خطاب النظام العربي الملكي (المحافظ)، الذي لم يكن أبداً على وئام ووفاق مع الخطاب القومي الذي رفعت رايته الجمهوريات العربية، والذي نجح في الحفاظ على ثباته وإستقراره أمام موجات غضب الربيع الغربي، فيما سقطت أمامها أنظمة الحكم الجمهورية، لا سيما وأن الأنظمة الأخيرة قد فشلت في تحقيق نصر عسكري حاسم على إسرائيل، كما فشلت في تلبية الاحتياجات الأساسية لشعوبها، فضلاً عن فشلها في بناء أنظمة حكم جاذبة لشعوبها يتم فيها تداول السلطة بطرق ديمقراطية.

وقد جاء الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي كأحد أبرز تجليات هذه التحولات التي تزامنت بدورها مع تحولات جيوسياسية إقليمية وعالمية، الأمر الذي أدى إلى توافق الطرفين على إنتاج نظام إقليمي جديد تسلم فيه القوى الرئيسية التقليدية في الإقليم بالحد الأقصى لقوة الطرفين، مقابل تسليمهم بالحد الأدنى لقوة هذه القوى.

وتأسيساً على ذلك من الواضح أن الإتفاق ينطوي على تهديدات جدية لمكانة القوى الرئيسية التقليدية في المنطقة مثل إيران وتركيا ومصر حتى وإن سارعت الأخيرة بالترحيب بالإتفاق، ويمثل في نفس الوقت تهديد وجودي للمشروع الوطني الفلسطيني الذي تقوده منظمة التحرير الفلسطينية، لا سيما أن المنظمة كانت قد نشأت بقرار من جامعة الدول العربية التي كان يهيمن عليها في حينه الأنظمة العربية القومية التي اسقطها الربيع العربي، الأمر الذي يعني أن الأخيرة قد أصبحت مهددة بالإسقاط، أو بإعادة إنتاج قيادتها وفق مقاسات التحالف الإقليمي الجديد.

 

نقلا عن صيفة القدس