عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - إذا ألقيتَ حجراً على بركة ماء راكد وآسن، ستخضّ البركة، وسيهتز الماء على شكل دوائر، وحينها، ستطير الحشرات وأسراب البعوض التي كانت على السطح، لكن الطحالب والفطريات التي كانت مختبئة في الأعماق ستظهر وستختلط مع الطين، حينئذ، ستحتاج أحجاراً أخرى، وهزات عنيفة، وعمليات غربلة وفلترة ستستغرق وقتاً إضافياً حتى تطهّر البركة من كل ما علق بها من أوساخ.

هذا ما حدث في الموجة الأولى من الربيع العربي (2011)، فما قامت به الجماهير الغاضبة آنذاك أنها أسقطت العديد من الأنظمة الفاسدة.. أسقطت رأس النظام، لكن طبقات الفاسدين، ومخلفات ألف سنة من الطائفية والقبلية والتخلف سرعان ما هيمنت على المشهد، فظهرت كل الآثار السلبية، من عنف، واحتقان، وتعصب، وتطرف.. وبالاستعانة بقوى الإسلام السياسي، وما يسمى الدولة العميقة، والتدخلات الأجنبية، انكفأت الثورات الشعبية، وتم امتصاصها، واستيعابها، وإعادة قولبتها على نحو يخدم تلك الجهات (التحالف الأوليغارشي)، فتحولت مطالب العدالة الاجتماعية، والحرية، ومحاربة الفساد - وهي مطالب الجماهير وشعارات الثورة - إلى برامج وأجندات القوى التي انقضت على الثورة، واقتنصتها، وحرفتها عن مسارها.. وبذلك، كسبت قوى الثورة المضادة الجولة الأولى.

ما يجري الآن في لبنان والعراق، وما جرى نسبياً في تونس والجزائر والسودان، هو تصويب لأخطاء وعثرات الموجة الأولى من الربيع العربي، أي استكمال الثورة الشعبية، ولكن بروح وشكل جديدين.. وحتى لا نرفع سقف توقعاتنا كثيراً، فإن الموجة الثانية من الربيع العربي، تستهدف بشكل أساسي البنية التي أطاحت بالموجة الأولى، وسرقتها.. أي بنية الدولة العميقة (الطبقة السياسية الفاسدة)، والبنية الطائفية التي تتكئ عليها تلك الطبقة، وتستقوي بها.

لذلك، نلاحظ بشكل واضح التركيبة الاجتماعية المنخرطة في الثورة، وهي تركيبة مدنية تجمع كل الشرائح والفئات والطوائف، وشعاراتها تخلو من أي بعد طائفي، أو أيديولوجي، أو حزبي.. مطالبها واضحة: التخلص من طبقة الفاسدين، ونبذ الطائفية.. بحراك سلمي جماهيري واعي.
كما نلاحظ الفرق في ردات الفعل بين السلطة في العراق عنها في لبنان، فالأولى تتسم بالعنف والدموية، بينما في الثانية ما زالت حتى الآن في حدود المعقول، وبلا ضحايا- باستثناء تصرفات رعناء من أنصار أحزاب طائفية - وهذه المقاربة لها أسبابها الموضوعية والتاريخية، ولكن، لا مجال هنا للخوض فيها.

وإذا كان ثمة فرق في ردات الفعل بين البلدين، فهناك أوجه عديدة للتشابه بين الثورتين، من حيث الأسباب والدوافع والسياقات، ففي البلدين تركيبة إثنية متعددة، وبيئة طائفية أذاقتهما ويلات الحرب الأهلية، وفي البلدين مرجعيات دينية تتبع عواصم إقليمية، وتعمل بأمرها.. وقد برهنت الوقائع أن هذه الطائفية شكلت دفيئة مثالية، لم تُنبت سوى صف من الفاسدين واللصوص.. تحميهم صفوف من الدهماء والأتباع، الذين أعمى التعصب بصيرتهم..

في العراق زعم سدنة المنطقة الخضراء أن المتظاهرين عملاء لأميركا، وتناسوا أنهم جاؤوا على الدبابة الأميركية.. وفي لبنان يقول زعماء الطوائف: إن التظاهرات غير عفوية، وأنّ سفارات أجنبية معادية تقدم لها الدعم.. وتناسوا أيضاً أنهم يعملون بأوامر طهران..

في البلدين دستور قائم على المحاصصة الطائفية، أنتج نظاماً طائفياً، وفي ظل هذا النظام عملت بقايا الإقطاع، والقوى القبلية، والزعامات الطائفية، وقادة الميليشيات، والعديد من محدثي النعمة على تحويل البلاد إلى مزارع وإقطاعيات، ولم تدخر تلك الطبقة الفاسدة أي جهد في سبيل نهب مقدرات البلاد وثرواتها، والاستفادة من مزايا السلطة والزعامة، بالرشاوى، والابتزاز، والاحتكارات، وفرض الضرائب، والقمع، والتجهيل، والاستناد إلى خطاب ديني سلفي، واستغلال العاطفة الدينية والنزعة الطائفية.. حتى عمّ الفساد، وانتشر الفقر، واستفحلت البطالة، وتدهورت الخدمات العامة، لدرجة أن المزابل ملأت الشوارع والحارات.. بينما هؤلاء تضخمت كروشهم، وأُتخمت حساباتهم في البنوك الخارجية.. (وبالطبع مثل ذلك في بلدان عربية أخرى سيأتي عليها الدور).

لم يكن ممكناً لتلك الطبقة الفاسدة أن تصل إلى ما وصلت إليه لولا وجود نظام المحاصصة الطائفية، ولم يكن ممكناً أن تستمر وتستقوي لولا خطابها الديني الشعبوي، المبني على أساس طائفي، والمدعوم بالميليشيات المسلحة، ولولا قبول الناس البسطاء، الذين انطلت عليهم شعارات المقاومة والإسلام السياسي، وشعار "حماية الطائفة" من هيمنة الطوائف الأخرى عليها.

اليوم، وصلت الأمور إلى مستوى لم يعد ممكناً السكوت عنه، أو القبول به، فقد طفح الكيل، وانكشف المستور، وتبين للناس بؤس الخطاب الطائفي، وما جـرّه عليهم من نكبات وويلات.. وقد تبين إلى أي مدى صارت تلك البلدان مرتعاً لطهران، وحليفاً ذليلاً لواشنطن، وزعماء أحزابها يعملون بأمر المرجعيات.. وقد أدركت الجماهير أن هذا الفساد مستشرٍ في كل الطبقة الحاكمة، لذلك جاء شعار "كلّن، يعني كلّن"..

اللافت للانتباه تركز التظاهرات العراقية في المناطق "الشيعية"، وسقوط "قداسة" المرجعيات، وبانتظار أن تنضم بقية مدن العراق للثورة.
في لبنان، ما زال حزب الله، وحركة أمل، وأنصارهما خارج صفوف الثورة، ويشككون بها.. علماً أن حزب الله بالذات غير متهم بالتورط في قضايا فساد، لا أمينه العام، ولا وزراء حزبه في الحكومة.. لكن حماية منظومة الفساد، والتحالف معها يُعدّ فساداً لا يقل خطورة.. كما أن اعتبار حزب الله غير قابل للنقد، هو نوع من التقديس والتأليه، لم يعد مقبولاً في زمن الثورات الشعبية.

قد لا تتمكن تلك الثورات من القضاء المبرم على الطائفية، والتخلص من الفاسدين، لكنها هزت الأرض تحت أقدامهم، وتلك خطوة ضرورية ومهمة.. فضلاً على أنها أعادت الاعتبار لقوة الجماهير الهادرة، ومثّلت حالة يقظة ووعي كنا نفتقر إليهما في الثورات السابقة.. وبثت فينا الأمل بإمكانية التغيير، لبناء مستقبل أفضل في فضاء ديمقراطي، وثقافة تنويرية يعيش في كنفها المواطن العربي بحرية وكرامة..
في العراق عبّرت صبية في عمر الورود بوضوح تام عن مطالب الشعب: نريد وطناً.