راسم عبيدات - النجاح الإخباري - من الواضح بأن المشهد المقدسي حالياً يزداد صعوبةً وتعقيداً، والهجمة الإسرائيلية تتكثف وتتصاعد بشكل غير مسبوق، وهي تطال كل جوانب ومناحي الحياة المقدسية في مختلف جوانبها وطنية سياسية ،إقتصادية، اجتماعية، دينية وخدماتيه، ولعل الإحتلال وجد بان الظروف المتوفرة له حالياً، توفر له فرصة نادرة لكي يبطش بالمقدسيين، وينفذ مشاريعه ومخططاته على الأرض، فالإدارة الأمريكية الحالية متصهينة أكثر من الحكومة الإسرائيلية نفسها، وتشارك مباشرة في العدوان على شعبنا الفلسطيني، حيث عمدت الى نقل سفارة بلادها من تل أبيب الى مدينة القدس، واعترفت بالقدس عاصمة لدولة الإحتلال خروجاً عن الشرعية الدولية وقراراتها، وكذلك تزداد الحالة الفلسطينية ضعفاً بسبب تعمق الإنقسام وتكرّسه، ودخول الصراع بين طرفي الإنقسام (فتح وحماس) مرحلة من التأزم وعدم الثقة بدرجة غير مسبوقة، وشهدنا خطوات متسارعة نحو نزع الشرعية، بحل المجلس التشريعي من قبل الرئيس عباس، والرد عليه من قبل حماس بنزع الشرعية عن الرئيس.

أما في الشأن العربي، فالنظام الرسمي العربي في حالة من الإنهيار غير المسبوقة، ناهيك عن دخوله في " تسونامي" تطبيعي وعلني مع دولة الإحتلال.

هذه الظروف مجتمعة وجد الإحتلال أنها توفر له الفرصة لشن حرب شاملة على الحلقة المقدسية لكسرها وتفتيتها، حيث يتجلى ذلك في العديد من المحاور، وخصوصاً أن حكومة الإحتلال سعت الى صياغة خطة خماسية ( 2018 -2023) بملياري شيكل تحت مسمى خطة لدمج المقدسيين في المجتمع والإقتصاد الإسرائيلي.

كما قلنا فالحرب التي يشنها الاحتلال على المقدسيين شاملة بإستهداف الأرض للتهويد والأسرلة لـ" كي" و"صهر" و"تطويع" الوعي والذاكرة الفلسطينية، وضمن هذه الحرب، كان في سلم أولوياتها تغيير الوضع القانوني والتاريخي للمسجد الأقصى، حيث شهدنا في العام الماضي،تصاعداً وكثافة لعمليات الإقتحام من قبل الجماعات التلمودية والتوراتية والحاخامات واعضاء كنيست ووزراء، وصلت الى 30 ألف عملية اقتحام.

كذلك سعى الإحتلال منذ أواخر تموز من عام 2018، ذكرى ما يسمى بخراب الهيكل الى العمل على التقسيم المكاني للمسجد الأقصى، وتحتدم عملية الصراع على هوية المكان، القسم الشرقي من المسجد الأقصى باب الرحمة ومقبرة باب الرحمة التي استولى الإحتلال على جزء منها وحولها الى مسارات تلمودية وتوراتية، والسعي متواصل لفرض واقع التقسيم المكاني، رغم حالة الصمود والمقاومة التي يبديها المقدسيون لمنع تنفيذ هذا المخطط.

والأقصى يجري إحاطته بالمزيد من الكنس والأبنية التلمودية والتوراتية لتغيير المشهد المقدسي، من مشهد عربي- إسلامي الى مشهد يهودي، بما ينفي التاريخ والحضارة العربية الإسلامية، ويزور التاريخ والأثار، وكذلك الحفريات والأنفاق مستمرة ومتواصلة حول وأسفل المسجد الأقصى، وبما يهدد اساسات المسجد الأقصى وخاصة الجهة الغربية، قرب القصور الأموية، حيث سقط أحد حجارة السور. ولا ننسى هنا الإبعادات عن الأقصى والتي طالت 176 مواطنا، أغلبهم من حراس وسدنة وموظفي المسجد الأقصى، وكذلك قرار نتنياهو في الإطار الإنتخابي للإستفادة من أصوات المتدينين، القيام بإعادة تقسيم ساحة حائط البراق، بين اليهوديات اللواتي يرفضن الإختلاط والعلمانيات غير الرافضات لذلك، في قضية الصلوات التلمودية والتوراتية، يضاف لذلك القرار الصهيوني بتخفيض صوت الأذان في مساجد مدينة القدس.

أما على صعيد القمع والتنكيل بالمقدسيين، فنحن نشهد ارتفاعاً كبيراً في عمليات الإعتقال والمحاكمات وفرض الغرامات والإقامات الجبرية والإبعاد عن مكان السكن، حوالي 2000 مقدسي جرى اعتقالهم في العام الماضي، وجزء منهم من الأطفال والفتيان ، ولا يقتصر القمع والتنكيل على ذلك، بل يشمل عقوبات جماعية بإغلاق مداخل القرى بالمكعبات الإسمنتية، وهدم بيوت المقدسيين، تحت شعار البناء غير المرخص، حيث هدمت بلدية الإحتلال وشرطتها ووزارة الداخلية الإسرائيلية 153 منزلاً ومنشأة ومصلحة تجارية مقدسية في العام الماضي، عدا عن حوالي عشرين عملية هدم ذاتي، ناهيك عن أن أكثر من 20000 منزل فلسطيني مهددة بالهدم تحت حجج وذرائع البناء غير المرخص.

أما على صعيد الإستيلاء على المنازل، فهناك تصاعد في هذه القضية والتركيز يجري على البلدة القديمة ومنطقة سلوان والشيخ جراح، أو ما يسميه الإحتلال بالحوض المقدس، حيث نجد ان هناك حوالي 80 بؤرة استيطانية في سلوان و 74 بؤرة استيطانية في البلدة القديمة، وهذه البؤر الإستيطانية تقام بالإستيلاء على الأراضي والعقارات المقدسية تحت ذرائع ما يسمى باملاك الغائبين أو الجيل الثالث، او عبر التسريب من قبل من هم متجردين من قيمهم واخلاقهم وانتمائهم الوطني والديني، وكذلك عمليات الطرد والترحيل والتهجير القسري للمقدسيين، لم تعد تحمل الطابع الفردي، حيث تحت مسمى الأملاك اليهودية قبل مئة عام أو أكثر، يجري طرد وترحيل أكثر من 702 مواطن فلسطيني من منطقة بطن الهوى في سلوان، و500 مواطن آخر يواجهون نفس المصير في كرم الجاعوني في الشيخ جراح، وكذلك استهداف سكان كبانية أم هارون في الشيخ جراح بالطرد والترحيل- 47 عائلة مقدسية.

أما على الصعيد الإستيطاني، فهناك زيادة كبيرة في اعداد المستوطنات المقامة على الأراضي المقدسة والتي تجري مصادرتها من قبل بلدية الإحتلال تحت شعار المنفعة العامة، ولم تعد تقام تلك المستوطنات على الأطراف، بل في قلب الأحياء العربية، تنفيذاً لسياسة القدس"عاصمة أبدية" لدولة الإحتلال و"القدس موحدة وغير مقسمة"، ولتغيير الواقع الديمغرافي للمدينة، عمدت حكومة الإحتلال الى توسيع مساحتها لكي تصبح 10% من مساحة الضفة الغربية، وبما يعني ضم مستوطنات جنوب غرب القدس الى حدود المدينة -مجمع مستوطنات -" غوش عتصيون" ومجمع مستوطنات " أفرات" والأراضي المستولى عليها من قرية الولجة، وكذلك ضم مستوطنات شمال شرق المدينة، مجمع مستوطنات " معاليه ادوميم"، وبما يعزل المدينة كلياً عن محيطها المقدسي جغرافياً وديمغرافياً.

وهذا يعني ضخ 150 ألف مستوطن الى حدود المدينة وإخراج أكثر من 100 ألف فلسطيني مقدسي من حدودها في القرى والبلدات الفلسطينية الواقعة خلف جدار الفصل العنصري، كفر عقب، جزء من قلنديا وعناتا ومخيم شعفاط وجزء من أراضي السواحرة الشرقية.

قلب الواقع الديمغرافي للمدينة لصالح المستوطنين، ولكي تصبح نسبتهم 88% مقابل 12% للفلسطينيين العرب،لا يجري فقط من خلال توسيع حدود ما يسمى ببلدية القدس، بل عبر سن سلسلة طويلة من التشريعات والقوانين العنصرية، والتي اخطرها ما يسمى بقانون أساس القومية الصهيوني، والذي لا يعترف بأية حقوق للمقدسيين في المدينة، بل يتعامل معهم على أساس انهم تجمعات سكانية.

أما على صعيد أسرلة التعليم واستهداف الوعي الفلسطيني، ومحاولة فرض مسار ورؤية صهيونية، ليس فقط على التعليم، بل على كامل التاريخ، فمنذ تولي المتطرف نفتالي بينت لوزارة التعليم العالي الصهيونية، سعى الى أسرلة العملية التعليمية، من خلال زيادة اعداد المدارس التي تدرس وفق المنهاج الإسرائيلي بشكل كامل، وافتتاح صفوف للمنهاج الإسرائيلي في المدارس التي تدرس المنهاج الفلسطيني، وقد استخدم سلاح مقايضة الميزانيات والترميم بتطبيق المنهاج الإسرائيلي والمدارس التي تدرس وفق المنهاج الإسرائيلي تغدق عليها الميزانيات، والمدارس التي تدرس وفق المنهاج الفلسطيني لا تصرف لها ميزانيات أو حتى ترميمها...والهدف واضح هو شطب التعليم الفلسطيني من المدينة بشكل كامل، وهو نتاج استراتيجة ورؤيا اسرائيلية، حيث جرى أكثر من اجتماع في الكنيست الصهيوني بمشاركة مكتب رئيس الوزراء وبلدية الإحتلال ووزارة المعارف والشرطة و"الشاباك"، جهاز المخابرات الإسرائيلي، لهذا الغرض، وفي إطار الترجمة العملية لتلك السياسة، فقد عقدت حكومة الإحتلال جلسة سرية ومغلقة لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي قبل أسابيع في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، كما نقلت القناة العبرية (13)، وتنفيذاً لقرار رئيس البلدية السابق المتطرف نير بركات تقرر العمل على تصفية عمل وخدمات ومؤسسات وكالة الغوث واللاجئين في مدينة القدس، بما يشمل إغلاق مدارس وكالة الغوث واللاجئين السبعة في المدينة، التي تقدم خدماتها ل 1800 طالب من بداية العام الدراسي القادم وإغلاق مراكزها الطبية وخدمات الأطفال والأمومة والخدمات الصحية والرياضية والمجتمعية، والعمل على مصادرة املاك ومؤسسات الوكالة، وكل ما له صلة بالبنية التحتية في مخيم شعفاط، ومركز التدريب المهني في قلنديا، وتحويلها الى أملاك بلدية وبما يشمل استئجار مباني جديدة لمدارس طلبة وكالة الغوث تابعة لبلدية الإحتلال، وبما يصفي وجود مخيم شعفاط في المدينة، بعد مصادرة الأرض المقام عليها، لكي يصبح حياً من أحياء مدينة القدس.

وهذه العملية ستكون بهدف شطب وتصفية عمل الوكالة بشكل نهائي في المدينة، بما يشمل ترحيل مقرها الرئيسي في منطقة الشيخ جراح تصفية عمل الوكالة ومؤسساتها في مدينة القدس، جزء مما يسمى بصفقة القرن الأمريكية لتصفية قضية اللاجئين وحق العودة، حيث توقفت الولايات المتحدة عن دفع حصتها المالية كاملة لوكالة الغوث واللاجئين الفلسطينيين ودعت الى تصفيتها، وإلى تقييد تعريف من هو لاجئ، بحيث يقتصر التعريف على الجيل الأول، أي الذين طردوا وهجروا قسراً من أرضهم في عام 1948 من أبناء شعبنا، دون أن ينسحب ذلك على ابنائهم وأحفادهم .

والشيء الأخطر ما يحدث بحق العملية التعليمية في مدينة القدس، حيث تجري عملية تفريغ ممنهجة للمدارس المؤجرة لبلدية الاحتلال في البلدة القديمة من مدينة القدس، أو المدارس التي سيطرت عليها بعد عدوان عام 1967، والتي كانت تديرها وتشرف عليها الحكومة الأردنية، تلك المدارس يجري تفريغها وتحويلها الى مؤسسات تابعة لبلدية الاحتلال، إما مراكز جماهيرية أو مؤسسات تتبع لدائرة الأثار الإسرائيلية، أو تمنح للجمعيات التلمودية والتوراتية الإستيطانية " العاد " و " عطيرت كوهونيم"، حيث يجري التخطيط لإغلاق مدرسة القادسية والتي تحول اسمها الى مدرسة المربي خليل السكاكيني في البلدة القديمة وتحويلها الى مؤسسة تابعة لدائرة الأثار الإسرائيلية إعتباراً من العام الدراسي القادم، وبما يضع مصير 350 طالبة في مهب الريح، وهذا المخطط يستهدف مدارس العمرية والمالوية في البلدة القديمة، وسيمتد المخطط ليشمل تفريغ المزيد من المدارس في البلدة القديمة من طلابها.

رغم كل هذه اللوحة السوداوية، لكن الحلقة المقدسية أظهرت انها عصية على الكسر، عبر توحدها بكل مكوناتها ومركباتها السياسية الوطنية والدينية والمجتمعية، وأستطاعت بإمكانياتها الذاتية وبإرادتها أن تهزم المحتل في أكثر من معركة، منها معركة وضع أبواب الألكترونية على بوابات الأقصى، تموز 2017، والمقاطعة شبه الشاملة للمشاركة في الإنتخابات لبلدية القدس المحتلة ترشيحاً وانتخاباً،30/10/2018، ومواجهة قرار فرض الضرائب على الأوقاف والكنيسة.

في ظل الهجمة الشاملة التي يشنها المحتل على أهلنا وشعبنا في القدس، نرى بأن دعائم ومثبات الصمود للمقدسيين، يقف في مقدمتها الدعم المالي بشكل خاص لقطاعي الإسكان والتعليم، فالميزانية الإسرائيلية للتعليم وأسرلته، ضمن الخطة الخماسية- 2018-2023-، بلغت (875) مليون شيكل، وميزانية بلدية الإحتلال سبعة مليار و 300 مليون شيكل، ناهيك عن الدعم مما يسمى بوزارة شؤون القدس والجمعيات التلمودية والتوراتية، بهدف تهويد المدينة وأسرلتها، فأين العرب والمسلمين من ذلك ..؟ والذين لا نسمع منهم سوى " الجعجعات" والخطب العصماء والإسطوانات المشروخة عن دعم لا نرى منه شيئاً،سوى في وسائل الإعلام.!

عن القدس الفلسطينية