نابلس - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - هل سبق أن تقدمت بطلب وظيفة، مرفق بسيرة ذاتية مبهرة (شهادة عليا، دورات متخصصة، خبرة طويلة، تخصص نادر..)، ومع ذلك رُفض طلبك مراراً وتكراراً؟ وفي كل مرة يقولون لك: خبراتك أعلى من المطلوب overqualified..!
كم مرة أُصبت بخيبة أمل لعدم ترقيتك في العمل، مع أنك تعمل بكل جد، وكفاءة عالية، وتطور نفسك باستمرار؟ كم مرة صُدمت بخبر ترقية من هم أقل كفاءة منك؟ أو بتولي شخص منصباً قيادياً مع أنه لا يتمتع بأي مهارات؟
كم مرة خاب أملك بأستاذ مميز، أو أديب مبهر، أو فنان موهوب، أو موظف مجتهد، أو عالم عبقري؟؟ فتتفاجأ بتراجع أدائه، وتدني مستواه!
قدّم ناشط الـ»يوتيوب» سامي البطاطي عرضاً موجزاً لكتاب «نظام التفاهة»، للمفكر الكندي «آلان دونو»، ترجمة الكويتية «مشاهد الهاجري». يبدأ البطاطي حديثه بصدمة المتابعين بأن الكتاب لا يتحدث كما نتوقع عن التافهين.. وأن اختيار المترجمة لكلمة «التفاهة» ربما لأغراض التسويق والدعاية للكتاب.
يقسّم المؤلف الناسَ إلى ثلاثة مستويات (العباقرة، العاديون، قليلو الكفاءة). وهؤلاء هم نتيجة نظام معين يتيح المجال للموظفين من ذوي الكفاءة المتوسطة لأن يتبوّؤوا المناصب القيادية العليا، مزيحين من طريقهم الكفاءات العالية المميزة، وأيضاً منعدمي الكفاءة.
وهذا النظام متبع عالمياً، ومع أنه غير مكتوب، لكن الجميع يعرفه ويطبقه، حتى لو دون قصد؛ فمثلاً رؤساء العمل وأصحاب الشركات والقيادات السياسية، ومن هم في المناصب العليا عادة لا يحبون من يبادر، ومن يُقلِق راحتهم، أو يعكر صفو نظامهم، ومن يعارضهم، ومن يكتشف أخطاءهم، ومن سينافسهم على مناصبهم.. وتلك صفات أصحاب الكفاءات العالية، لذا سيتخلصون منهم سريعاً.  
يعتقد الموظف الكفؤ أن مبادراته الخلاقة وحلوله الذكية وأداءه المميز سيؤدي إلى ترقيته في العمل، لكن الواقع غير ذلك، فالنظام يشجع الموظفين على إتباع سياسة المداراة، والتملق، والمسايرة، والتقرب من المسؤولين.. وهنا سيجد الموظف الكفؤ نفسه أمام خيارين: إما التمسك بمبادئه وقيمه التي تتنافى مع هذا النهج، وبالتالي سيجد نفسه معزولاً ومغضوباً عليه.. أو ينساق مع النظام القائم، ويصبح عادياً.
يضرب المؤلف مثال التعليم في المدارس، هذا النظام قائم على نمطية معينة، ومفاهيم عديدة تجاوزها العصر، مثل أن تحصيل الطلبة يجب أن يمثله منحنى في أسفله عدد قليل من الطلبة المتأخرين، وفي الوسط الطلبة العاديون وهم الأكثرية، وفي القمة عدد أقل من المتفوقين.. فإذا تمرد أستاذ على هذا النظام، وتمكّن من تحقيق منحنى تتقارب فيه جميع علامات الطلبة، بحيث يكونون كلهم متفوقين، هنا بدلاً من مكافأته سيتم طرده، لأنه خالف النمطية السائدة.. مع أن قيم التعليم تسعى لأن يصل جميع الطلبة إلى المستوى المتفوق، لكن النظام سيطغى على القيم.. فنجد هنا أن «نظام التفاهة» كما يتخلص من الأستاذ المهمل، أو منخفض الكفاءة، يتخلص أيضاً من الأستاذ ذي الكفاءة العالية.. أو يضطر هذا الأستاذ لأن ينحدر إلى مستوى الكفاءة المتوسطة.
يتجلى هذا النظام بصورة أخرى في الجامعات، التي يقول عنها المؤلف: إنها تخرج خبراء، ولكنهم غير مثقفين، فنظام التخصصات الدقيقة صار يسطح عقول الطلبة، فيوجه معارفهم باتجاه تخصصهم بمعزل عن الثقافات والمعارف الأخرى، فيتخرج متفوقاً في تخصصه لكنه جاهل في العلوم الأخرى، ولا يمتلك مهارات التفكير النقدي والإبداعي، وهكذا يتخرج المهندس الكهربائي خبيراً في مجاله، لكنه لا يعرف كيف يركب جرة الغاز، والطبيب الجراح لا يعرف شيئاً عن أرسطو، وعالم الفيزياء لا يعرف أين تقع فيتنام، وأستاذ التاريخ لا يميز اسم كان عن خبره، حتى داخل الحقل الواحد، ستجد مهندساً زراعياً خبيراً في الآفات الحشرية، لكنه لا يميز الزهرة عن الملفوف.. بمعنى أن الجامعات صارت تنتج سلعاً لسوق العمل.
وهذا انعكس بدوره على فكرة تقسيم العمل وتجزئته (بهدف زيادة الإنتاج)، الأمر الذي أدى إلى فقدان الحيوية وانعدام الروح الخلاقة.. فمثلاً حين كان الميكانيكي يشارك في صناعة وإصلاح كافة أجزاء السيارة، كان يمارس عمله بشغف، لأن ذلك يتطلب منه الابتكار والتفكير الإبداعي، لكنه حين تخصص في تركيب جزء معين من الماكينة، صار عمله روتينياً، لا يحتاج مهارات استثنائية، وخسر معرفته بمجمل أجزاء السيارة، وبالتالي فقد شغفه، وبالمثل، ستجد «شيف» ماهراً يتقن إعداد كافة أصناف الأطعمة، وهذا يتطلب منه فناً وإبداعاً وإحاطة بمهارات شتى، ولكنه إذا تخصص في صناعة الحلويات الغربية فقط، سيفقد شغفه ومهارته، وربما يخفق في إعداد طبخة مقلوبة.
هذا التخصص في العلوم والصناعة والحرف والإنتاج وراءه نظام رأسمالي، كل همه زيادة الإنتاجية، وبالتالي تضخيم الأرباح، حتى أن كبرى الشركات صارت ترعى تخصصات أكاديمية فرعية، وتفتتح لها كليات، بهدف تخريج كوادر كأنهم مسننات ضمن ماكينة. أو إنتاج بحوث «علمية» حتى لو كانت ضد القيمة العلمية، المهم أن تدعم توجهاتها وسياساتها الإنتاجية، ولو كانت ضارة، أو مثيرة للجدل.
هذا النظام سيتكرر في مختلف نواحي الحياة، فمثلاً النظام الاقتصادي لمعظم البلدان يقوم على أسس معينة، ينتج الفقر والبطالة والغلاء والتفاوت الطبقي.. فلو جاء خبير اقتصادي واقترح خطة محكمة تقلل من مستويات الفقر وتحل مشكلة البطالة، وتمنع الاحتكار والاستغلال.. فلن يتيح له النظام ذلك، حتى لو كان أصحاب السلطة من المخلصين، والسبب أن تلك الخطة ستربك النظام القائم، وقبل ذلك، فإن النظام لا يفسح المجال لمثل هذا الخبير أن يصل للمواقع القيادية التي يحتلها أصحاب الكفاءات المتوسطة.
وسنجد أمثلة أخرى لنظام التفاهة، في مجال الفنون والآداب، فمثلاً شركات الإنتاج لا يهمها القيمة الفنية والمحتوى، بقدر ما يهمها الربح، فتبحث عن الممثل الذي يضمن تدفق المشاهدين على شباك التذاكر، بغض النظر عن مستواه الفني، أو تستثمر في مطرب مميز ولكن على شكل حفلات تدر الأرباح، وليس بالبحث عن ألحان وكلمات مميزة لتطوير مسيرته. تماماً كما تفعل المؤسسات الثقافية المكرسة لخدمة سياسات الدولة التي تخصص جوائز للمبدعين، ولكن ضمن شروط معينة، لا علاقة لها بالإبداع والقيمة الأدبية، الأمر الذي دفع بشريحة ليست بالقليلة من الأدباء لإنتاج أدب على مقاس الجائزة.
نظام التفاهة بالمثل الشعبي: «حط راسك بين الروس».