نابلس - صادق الشافعي - النجاح الإخباري - يوم الجمعة الماضي التاسع من نيسان، كانت الذكرى الـ 85 ليوم ميلاد غسان كنفاني.  
الذكرى تفرض حضورها كما يفرض غسان حضوره الدائم. يحصل ذلك رغم المعرفة المسبقة أن غسان نفسه أوقف الاحتفال بعيد ميلاده مبكراً جداً؛ حين وصل إلى الوعي أن تاريخ يوم ميلاده يتصادف مع تاريخ مجزرة "دير ياسين"، واحدة من أكثر المجازر دموية التي ارتكبها الصهاينة الغزاة المحتلون ضد أهلنا في قرية دير ياسين.
بعد 48 سنة على استشهاده ما زال حضوره قوياً عفياً ومتألقاً.
اسمح لنفسي باستعارة تعبير شعبي عراقي يقال عند اللقاء مع قريب أو صديق بعد أن غاب عن جلسة جامعة أو لقاء، فأقول كما يقولون: "أبو فايز... مكانك خالي"، وأضيف من عندي: وما زال خالياً.
خلو المكان وغياب الحضور، لا يقتصر على عالم الصحافة والنشر، ولكنه يتسع ليشمل عالم الأدب والنضال الوطني، والسياسة والانتماء والفن والأخلاق. وكل هذه الأشكال للغياب تقوم على أساس الحضور الإنساني، فغسان في الأول والأساس إنسان بكل ما تحمله هذه الصفة من قيم ومثل وأخلاق ومبادئ.
* فهو الكاتب الروائي، وأعماله ورواياته تشهد على ذلك.
* وهو المفكر الذي كتب أكثر من دراسة وباحث في منتهى النضج، مثل بحثه عن ثورة 1936.
* وهو الصحافي المتميز. يؤكد ذلك كل زملائه الصحافيين الذين عمل غسان معهم في عدد من الصحف والمجلات. وتشهد على ذلك أيضاً مجلة "الهدف" الأسبوعية التي أسسها وترأس تحريرها حتى يوم استشهاده، وكانت من أهم وأصدق المنابر الصحافية الفلسطينية.
* وهو الرسام المبدع: في تصميم الملصق، وفي رسم الزخارف المميزة التي كان يرسمها في مواسم معينة يعرفها وينتظرها أصدقاؤه ويتسابقون على امتلاك واحدة منها، ولم يكن يبخل عليهم بها. معظم زخارفه كانت عن الحصان في حالة جموح، مع سرجه الموشح بزخارف كلها من التراث الفلسطيني، وعن القدس والمسجد الأقصى.
* وهو المحاور قوي الحجة الممتلك لموضوعه تماماً سريع البديهة وطليق اللسان.
* وهو الباحث عن الكفاءات لإعطائها الفرصة والاستمرار في تشجيعها بتواضع ومن دون أستذة أو استعلاء.
* وهو إلى ذلك كله ذو شخصية محبة، أليفة، بسيطة، لطيفة المعشر، قوية الحضور، سريعة البديهة، وشديدة الوفاء.
كل ذلك، وغيره الكثير، لا يمكن رؤيته وفهمه إلا وهو قائم على ركائز تكوينية في شخصية غسان الإنسان: أول هذه الركائز، انتماء عربي ووطني فلسطيني عميق حتى نخاع العظم. فغسان كان دوماً ابن عكا في أي مكان رمته فيه ظروف الحياة، ودوماً مؤمناً وملتزماً بهدف تحرير كل الوطن.              
وثاني هذه الركائز انتماء حميمي إلى الناس العاديين وقضاياهم المحقة والعادلة ونضالهم في سبيل تحقيقها.
بهذه الشخصية والمواصفات والقدرات وبناء على الركائز المذكورة، كانت لديه القدرة على استقراء الدنيا وأحداثها قبل غيره من الناس العاديين ومن الأقران أيضاً.    
ومن هنا جاء استقراؤه لنضج ظروف قيام الثورة، فجاءت صرخته على لسان أحد أبطال رائعته "رجال في الشمس": "لماذا لم يقرعوا جدران الخزان".
وبهذه الشخصية والمواصفات، كان قادراً على اكتشاف المبدعين من أهلنا في أراضينا المحتلة عام 48، فقدمهم وقدم إنتاجهم العظيم إلى أهلهم الفلسطينيين والعرب وإلى العالم أجمع في كتابين: الأول "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 948 1-1966". والثاني "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948- 1968".   
وفتح لهم صفحات الهدف وصفحات إصدارات أخرى. فعرفنا محمود درويش وأنشدنا معه "سجل أنا عربي"، وعرفنا سميح القاسم وإميل حبيبي وغيرهم.
وبهذه الشخصية والمواصفات فتش حتى وجد "أم حسين" ابنة منطقته في فلسطين قبل النكبة، ومن سكان مخيم "برج البراجنة" في بيروت، والوالدة لفدائي، ليكتب على لسانها رائعته عن المخيمات بالترابط مع الفدائيين "أم سعد".
لكل هذا وغيره الكثير ولكل ما بشر به غسان وهو لم يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره، كان قرار دولة الاحتلال بتصفيته في عملية نوعية وخاصة وشديدة الخطورة.
ويبقى غسان حاضراً على امتداد الزمن في كل وطني فلسطيني أو عربي وفي كل مناضل من أجل حريته واستقلال بلاده.