نابلس - د.مؤيد حطاب - النجاح الإخباري - (13) الفسادكرست عوامل مختلفة امتدت عبر مراحل الحكم العربي والاسلامي إلى ترسيخ العقل النقلي وجمود المعرفة، دون الفكر النقدي المعرفي للعالم العربي. في هذه السلسلة أحاول البحث عبر التحليل النقدي عن أهم الاسباب التي ساهمت بذلك، وكيف تغيرت وسائل الفكر وطرق المعرفة في العالم العربي إلى أن وصلت لهذا الجمود الذي نشهده اليوم.

 رغم  الاتفاق العام على خطورة الفساد وأثره السلبي والكبير على هدم الدولة وحضارتها المعرفية، إلا أن محاربته في الدول التي تكرس فيها الاستبداد تبقى صعب المنال. فإستسلام الناس للمستبد تجعل المجتمع متراخي في الدفاع عن كرامته خوفا من بطش المستبد، وبالتالي تلجئ الناس لطرق مختلفة من الفساد للتعويض عن هدر حقوقها. هذه الطرق البديلة تتنوع وتتدرج في منظومتها ومستوى فسادها بحسب قدرات الافراد، ومركزهم الاجتماعي والسياسي والديني. وبالتالي يتحول اهتمام الفرد بدل اللجوء نحو القانون والقضاء لانصافهم، الى اللجوء نحو العائلة أو القبيلة، او الحزب او القوة او المال، لتحقيق مكتسباته الشخصية ومتطلباته الانسانية، ومن لم يجد في ذلك مغنما يبحث عن البديل الاخر، وهو الخنوع لمن يملك القوة أو المال أو السلطة، ليقدم له الطاعة والولاء مقابل تمكينه من تحقيق مراده، حتى يصبح مقايضة الكرامة الإنسانية مقابل تحقيق مطالبه الشخصية ليس بالامر المؤلم او المهين، بل ربما يتحول في نظره إلى إعتزاز نرجسي بالذات أو نشوة الذكاء.

 

بالطبع، ستجعل متلازمة الاستبداد والاستسلام المجتمعي لفقدان العدالة، التنافس بين الافراد في داخل المجتمع مبني على أسس البقاء للأقوى، وستبقى الدولة التي تحكمها النظم الشمولية، تفرض ذلك التنافس غير الإنساني وغير الحضاري على المجتمع، لأنه سيخرج الدولة من دائرة الجدل حول تحملها لمسؤولية فشلها، وسيحول أنظار الافراد من محاسبة الدولة إلى السعي وراء كل الوسائل البديلة، وان كان يملؤها الظلم والفساد، لتحقيق مرادها. وبالتالي سيكون جل اهتمام الافراد ليس محاسبة الدولة على إهدارها لحقوقهم، بل سيكون إهتمام الفرد منصب على تجميع أكبر قدر من الوسائل التي تمكنه من نيل مراده، بغض النظر عن عدالة تلك الوسائل او فسادها. ربما تكون تلك المطالب والطموحات الشخصية جزء من حقوقه التي من المفترض ان توفرها الدولة، لولا تحكم الفساد بالمنظومة العامة للمؤسسات والمجتمع، لكن يفقد الفرد ثقته بالحق عندما يواجه بقمع المستبد واستسلام العقل الجمعي لقبضة الفساد.

يجد الفرد القابع تحت قبضة الدولة الشمولية نفسه أمام خيارين، إما أن ينخرط داخل تلك المنظومة الفاسدة ويطوعها لصالحه، أو ينظر الى غيره يقوم بذلك الدور ليحصل على ما كان هو يطمح له. وهكذا يعتاد المجتمع على تلك الوسائل في تحقيق الذات، حتى يتكون شعور تصالحي بين الرضا بالواقع غير العادل من جهة، وعدم تحميل الدولة المسؤولية عن فشل الافراد في تحصيل حقوقهم، من جهة أخرى، وتستقر في اذهان وضمائر المجتمع حالة من السكون والتصالح التام مع الفساد ومنظومة الاستبداد التي تغذيه، الى ان يصبح ذاك الواقع جزء من ثقافة المجتمع تدافع عنه وترفض تغييره.

هكذا يتكون المجتمع الذكوري او الابوي، الذي لا يعني حرمان المرأة من مكانتها الحقيقية في قيادة المجتمع بل يشمل أيضا استقرار مفهوم الغلبة للأقوى، مما يؤدي الى تشويه معنى العدالة والمساوة في الحقوق، وجعل عموم أفراد المجتمع يتجه، ومنذ نعومة أظافره، نحو تعزيز تلك الغلبة عبر جمع المال أو فرض القوة، أو الارتكاز إلى القبيلة، أو حتى استجداء المحسوبية، من أجل تحقيق أبسط حقوقه في الحصول على العيش دون الكريم. بل انها تجعل جميع طبقات المجتمع، ومن أهمها طبقة المتعلمين، تستسلم وتتعايش مع فكرة أن الوظائف أو الترقية، وبالتالي طلب الرزق، لابد أن يمر عبر تلك الوسائل، دون الحاجة لاختبار القدرات العلمية او الإنتاجات الفكرية.  وبالتالي يعتاد المجتمع السعي وراء من يملك القوة والتقرب منه، حتى إذا فتح لهم باب الاستجداء، أضحوا مناصرين له ومدافعين عن بقائه بكل حزم، كونه املهم الوحيد في تحقيق مطالبهم الطبيعية ومتطلباتهم الإنسانية ولا يملكون أي امل من بعده.  وهكذا يصبح الفساد المستشري عرفا ثقافيا، ومطلبا شعبيا يدافع عن بقائه أكثر الناس قهرا وبؤسا وفقرا.

 

في ظل ذلك الاستسلام المجتمعي لحاكمية الفساد والاستبداد، تصبح مجرد فكرة وجود أبحاث علمية نوعية، ناهيك عن إنتاجات إبداعية، مجرد ترف فكري، أو طرفة مضحكة لا أكثر. فالإنفاق الذي ستقدمه للدولة للبحث العلمي، ان وجد، سيكون عرضة للسرقة والاستغلال، دون ان يصل إلى المراكز البحثية أو مستحقيه من الباحثين. وستنحصر البعثات العلمية والتدريبية على من كان أكثر قربا وولاء وليس من يستحق، كما حدث في القصة المشهورة لإحدى الدول العربية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، حين حصلت تلك الدولة على منحة يابانية لتدريب المعلمين لديها واستضافتهم في اليابان. هدفت المنحة الى بناء وتدريب المدرسين العرب على طرق التعليم الحديثة وكيفية انشاء نظام تعليمي متقدم. فقامت الجهات الخاصة والقائمون على تحديد أسماء المبتعثين بإرسال أصدقائهم ومعارفهم، رغم ان اغلبهم من غير المعلمين، وبالتالي استغل المبتعثون تلك المنحة كنوع من الاجازة المدفوعة كما استغلت اللجنة التي أرسلتهم الرواتب المدفوعة من اليابان ليتم مقاسمتها مع المبتعثين. لقد استمتع المسافرون الى اليابان برحلة جيدة، وحصلوا على بعض المال، وتمكن صناع القرار من كسب ولاءات مختلفة او تحصيل اموال اضافية، لكن المجتمع والدولة خسر فرصة أخرى للتطوير كانت ستخدم أجيالا قادمة بمن فيهم أبناء تلك اللجنة المختصة أو حتى أبناء المسافرين للاستمتاع.  من طبيعة التناغم المجتمعي مع منظومة الفساد انها تضع غشاوة على أعين الناس تجعلهم لا ينتمون الا الى مصالحهم الخاصة وان كانت على حساب دولتهم. كما تجعل الناس لا يغضبون إلا بعض الشيء على من انكشف أمرهم من الفاسدين، ولكنهم سرعان ما تنكس رؤوسهم ويعودوا لحياتهم الطبيعية. وحتى حين يتم الضغط المجتمعي على ضرورة المحاسبة، فان سقف تلك المطالب ستكون منصبة على من الفئة الضعيفة ممن انكشف امرهم، وليس على المنظومة الشمولية ورأسها المتحكم في بقاء الفساد.

إن منظومة الحكم الشمولي توفر بيئة حاضنة للفساد، والابقاء عليها، حيث يسمح بتوظيف من لا يستحق في المكان الذي لا يفقه، وبالتالي سيكون أثر هؤلاء حين وجودهم في مؤسسات التعليم، والمعاهد والجامعات، والمراكز البحثية، سلبي وهادم من جهتين، الاول أنهم لن يخدموا أماكنهم بل سيفشلونها، والثاني أنهم سيعملون على تحطيم وتدمير زملائهم القادرين على تقديم ما يفيد. كما أن الخوف من سرقة الافكار أو عدم نشرها، سيخفت العقل ويضعف الانتاج، خصوصا إذا كان ثقة المجتمع بنظام العدالة، وسلطة القضاء والتنفيذ، مهزوزة.

لا ريب ان مؤسسات التعليم عبر مراحلها المختلفة، سواء المدرسية حتى الجامعية، هي مركز نشوء الحضارة أو إنحدارها، فهي التي تستطيع تطبيق مناهج العقل النقدي، ونظرية المعرفة، وبالتالي تخريج أجيال جديدة قادرة على التفكير والبحث عن المعرفة بشكل علمي سليم. في المقابل، خوف السلطة من وجود جيل قادر على النقد يجعلها ترفض تطوير مناهجها أو تعزيز المعرفة المبنية على العقل النقدي. لقد جعلت منظومة الفساد والحكم الشمولي، هدف الطلاب المقبلين على التعليم ينحصر في مجرد الحصول على الشهادات دون عناء، وافقدتهم روح التنافس العلمي، والتدافع الفكري، والتسابق على تحصيل العلم والمعرفة، وبالتالي أفقدتهم لدورهم الحقيقي في بناء النهضة العلمية والحضارة المعرفية وتقدم دولهم.  إن اهتزاز ثقة طلبة العلم بعدالة المؤسسات ونظم التعليم، سيجعلهم غير مكترثين بتحقيق الاكتساب العلمي او الابداع المعرفي، كما سيجعلهم غير منتمين او مكترثين لبناء دولهم وتقدم حضارتها، خصوصا إذا سيطر عليهم الشعور بان المستقبل الوظيفي او المادي، غير متعلق بالمستوى الفكري وغير مبني على المنافسة العلمية، بل على المركز الاجتماعي ومستوى المحسوبية، اي ليس مبني على ماذا يعرف بل من يعرف.

ان استسلام افراد المجتمع للاستبداد والفساد، وتخليه عن حقه في المحاسبة والشفافية، ستجعلهم يخضعون للاستعباد، حتى يرتبط تحقيق متطلباتهم الحياتية بمستوى رضا أصحاب المراكز والقوى عنهم. وهكذا سيشكل الفساد معضلة دائرية، حيث سيتحول الافراد الى مدافعين عن بقاء من يحمي مصالحهم، ويسعون لاستمرار وجودهم في تلك المراكز، بغض النظر عن فسادهم او افسادهم، وسيتحول المجتمع الى مدافع شرس عن المنظومة التي تحمي مصالحه الانية والفردية، رغم انها تهدم مستقبله ومستقبل اولاده. في النهاية، ان معاني الفساد تتسع لتشمل جميع مناحي الحياة وجميع مرافق الدولة وسلوك المجتمع، إلا أن نتائجها واحدة وحتمية، وهي انهيار التقدم الحضاري وتخلف الدولة.