الدكتور محمد السعيد إدريس - النجاح الإخباري - فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أركان إدارته وخاصة وزارتي الخارجية والدفاع والشعب الأمريكي وحلفاءه المقربين قبل أن يفاجئ العالم كله بقراره المثير للغرابة الذي أعلنه يوم الخميس الماضي (29/3/2018) في خطاب «شعبوي» أمام عمال صناعيين في أوهايو وأكد فيه أن «القوات الأمريكية ستنسحب من سوريا قريباً جداً»، وزاد على ذلك قوله «فلندع الآخرين يتولون به الآن-!!» لكنه لم يحدد من هؤلاء الآخرين الذين يقصدهم بهذه الإشارة هل هم الروس أم الإيرانيون أم الأتراك؟ وهل سيترك سوريا لهؤلاء كرماً منه أم توريطاً لهم؟

اللغة التي تحدث بها ترامب وهو يعلن قراره بالانسحاب من سوريا كانت لغة غريبة على رئيس أكبر وأقوى دولة في العالم، خصوصاً ما يتعلق بالقرارات الإستراتيجية الكبرى لمثل هذه الدولة. الأدهى أنه صور الأمر لمستمعيه وكأن الولايات المتحدة كانت مجبرة رغم إرادتها على التورط العسكري في سوريا، ونسي قرارات مهمة على لسان وزير الخارجية المقال ريكس تيلرسون ووزير الدفاع جيمس ماتيس، منذ شهرين فقط، تؤكد أن الولايات المتحدة قررت البقاء في سوريا رغم أنف الجميع.

ورغم إعلانها رسمياً على لسان رئيسها ترامب الانتصار النهائي على «داعش» لمبررات من نوع «أن يتحقق الاستقرار السياسي في سوريا». أين هذه التأكيدات على ضرورة البقاء، وأين ما أعلنه مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون الشرق الأوسط ديفيد ساترفيلد من أن الرئيس ترامب «قرر الإبقاء على قوة عسكرية مهمة في سوريا رغم هزيمة داعش» وأن «الإدارة الأمريكية خصصت أربعة مليارات دولار سنوياً لتمويل هذه العملية»، وبالذات للصرف على القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا، وعلى الجيش الذي قررت تأسيسه في مناطق سيطرة الحلفاء الأكراد في الشمال السوري تحت مسمى «قوات أمن الحدود» التي أرادت بها وضع خطوط تقسيم لسوريا؟ أين هذا كله الذي حدث قبل أقل من شهرين ما اعتبره مراقبون «قراراً أمريكياً بتغيير قواعد اللعبة في سوريا مع روسيا»، وأن واشنطن قررت إفساد الانتصار الروسي في سوريا وإنهاء الاحتكار الروسي لحاضر ومستقبل سوريا، وإفساد خطط إيران لربط نفسها بالبحر المتوسط بخط بري عبر العراق وسوريا ومنها إلى لبنان لفرض نفسها قوة مهيمنة شرق أوسطية، أين هذا كله من قول ترامب في إعلانه المثير للانسحاب من سوريا بشكل مفاجئ: «سنخرج من هنا قريباً (يقصد من سوريا)، وسنعود إلى بلدنا الذي ننتمي إليه ونريد أن نكون فيه».

الناطقة بلسان وزارة الخارجية الأمريكية هيذر نويرت قالت إن الخارجية لا تملك معلومات بشأن تصريحات ترامب بشأن خطة الخروج من سوريا وقالت «لا علم لي بما ورد على لسان الرئيس». وعندما سئل المتحدث باسم قوات التحالف الدولي التي تقودها الولايات المتحدة في العراق وسوريا ضد «داعش» إن كانت القوات الأمريكية بُلِّغت إخطاراً بقرار للانسحاب أو تستعد لتنفيذ ذلك قال أنه «لن يعقب على أي عمليات مستقبلية».

هذا يعني أن ترامب لم يتحدث مع أحد بخصوص هذا القرار وهذا أيضاً أمر غريب وغير متصور حدوثه وإلا ستكون الولايات المتحدة قد دخلت مرحلة غير مسبوقة من «عشوائية إدارة السياسة والحكم« وهذا أمر مستبعد تماماً، مع العلم أن كل هؤلاء صمتوا تماماً.

أما الأشد غرابة فهو الجزء الثاني من تصريحاته التي أدلى بها في أوهايو. ترامب لم يكتف بالعرض المسرحي الذي قام بأدائه وهو يحاول أن يصل بما يريد قوله إلى مستمعيه الذين كانوا يؤيدونه بصخب، لكنه زاد على ذلك الحديث بعرض أكثر هزلية حول الإنفاق الأمريكى على الشرق الأوسط.

فالمعروف أن الدول الكبرى، وبالذات الولايات المتحدة، تبني الجيوش وتسلحها بأحدث الأسلحة وتنشرها حول العالم، وتخوض بها الحروب المشروعة منها وغير المشروعة في كثير من الدول من أجل أهداف ومصالح وقضايا تخص أمنها القومي، إضافة إلى تحقيق المكانة والسيطرة والزعامة. كما أن هذه الدول وخاصة الولايات المتحدة تقدم المساعدات المالية عينية كانت أم مادية للدول التي تحتاج إليها ليس من أجل مبادئ وقيم وأخلاقيات حميدة ولكنها تقدمها بشروط سياسية وغير سياسية. فالولايات المتحدة هي من ابتدع سياسة تقديم المساعدات باعتبارها سلاحاً لإملاء الشروط وكسر إرادة الدول والشعوب وتبرير التدخل في الشئون الداخلية للدول والسيطرة على قراراتها والانحراف بها عن أهدافها ومصالحها الوطنية.

قال ترامب في هذا الخطاب «أنفقنا سبعة تريليونات دولار في الشرق الأوسط.. هل تعلمون ما الذي حصلنا عليه لقاء ذلك؟ لا شيء». وعاد يقول «فكروا في الأمر معي (مخاطباً جمهور مستمعيه في أوهايو)، لقد أنفقنا هناك سبعة تريليونات دولار.. هل تسمعون جيداً؟.. أقول ليس مليوناً أو ملياراً، بل 7 تريليونات دولار».

حديث ترامب مفعم بالمغالطات، ومطلوب منه وإدارته أن يقدموا للشعب الأمريكي قبل شعوب ودول الشرق الأوسط كشوف حساب توضح على من أنفقت هذه الأموال، وفي أية مجالات؟ ومن أجل أية أهداف، وأن يقدم في ذات الوقت كشوفاً بأثمان التدمير الذي ألحقته الحروب الأمريكية أو الحروب الإسرائيلية المدعومة أمريكياً ضد العرب، وأن يقدم كشوف حساب على الأموال العربية المنهوبة بمئات المليارات.

كم ثمن عدوان يونيو 1967 الذي دعمته ومولته الولايات المتحدة ضد العرب؟ وكم ثمن الدعم الأمريكي للكيان الصهيوني والذي بسببه أضحى قادراً على التوسع وتصفية القضية الفلسطينية، وكم ثمن تدمير العراق، وكم ثمن الحرب على الإرهاب الذي اصطنعته أمريكا لتكمل به مسلسل تدمير مجتمعات العرب واستنزاف جيوشهم، وكم ثمن ما يحدث الآن في سوريا برعاية أمريكية، وكم ثمن ما حدث في ليبيا؟ هذه فاتورة حساب كبيرة وضع الرئيس الأمريكي نفسه، وبإرادته، أمام مسئولية الإجابة عليها أمام الشعب الأمريكي نفسه، قبل شعوب الشرق الأوسط التي يزعم أنه أنفق عليها كل هذه التريليونات.

...عن «الأهرام» المصرية