نابلس - عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - قد يبدو هذا السؤال غريباً في ظل معطيات كثيرة ترجح جولة جديدة من الحرب على القطاع.
لا تتعلق هذه المعطيات بالتهديدات المباشرة من رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد نفتالي بينيت، ولا من قادة الجيش بمن فيهم غانتس نفسه فقط، وإنما تتعلق هذه المعطيات بـ«التهديدات» التي تطلقها بعض الأوساط من جانب الفصائل العسكرية في القطاع.
وفي ظل عودة أمور الحصار الإسرائيلي على القطاع إلى وضع هو في الواقع أسوأ مما كانت عليه أمور الحصار قبل الحرب الأخيرة، وفي ظل ما بتنا نعرفه جميعاً من أن وقف إطلاق النار قد تم دون أي شروط، وان المعادلة الفعلية القائمة، اليوم، هي معادلة الإعلان الإسرائيلي المعلن والصريح بأن الرد على أي «مبادرات» فلسطينية بإطلاق الصواريخ من القطاع سيكون بردود عنيفة للغاية، وبحيث لا تكون هذه الردود كما كانت في السابق - قصف مقابل قصف - وإنما قد تصل إلى تصعيد اكبر وأعلى من السابق، وبما لا يستثني العمليات البرية الواسعة، إضافة إلى استهداف «بقية» البنى التحتية وصولاً إلى القيادات العسكرية والسياسية لكل الفصائل العسكرية العاملة في القطاع .. في ظل ذلك فإن هذا السؤال، سؤال فيما إذا انتهت الحروب على قطاع غزة وكأنه خارج سياق الواقع!!!
لكن الحقيقة قد تكون مغايرة ومختلفة، ويمكن ان تكون الحرب الأخيرة هي آخر حروب القطاع وآخر الحروب عليه.
إليكم الأسباب التي أراها وجيهة في ترجيح ذلك:
أولا: لا يعتقد أن الحكومة الإسرائيلية «بقيادة» نفتالي بينيت والتي تعرف جيدا حساسية وضعها، وإمكانية أن تؤول إلى السقوط في أي لحظة قادمة ستذهب إلى حرب جديدة بسهولة، إلا إذا كانت الحرب أحد الموانع الرئيسة لعدم سقوطها في لحظة اهتزاز سياسية حرجة.
وبما ان وزير الدفاع الإسرائيلي يعرف الوضع حق المعرفة فليس من المرجح أبداً ان يوصي أو يتبنى قرار الحرب إلا كآخر خيار، وليس كخيار له أي طابع من الأولوية أو الأسبقية على خيارات أخرى.
هنا يطرح السؤال التالي: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا تستغل الفصائل العسكرية - ومن خلفها القيادات السياسية - هذا الأمر باتجاه التمسك بشروطها لصفقة تبادل الأسرى، ولإعادة الإعمار، والذهاب إلى إجراءات إسرائيلية فعلية نحو التخفيف من وطأة الحصار الإسرائيلي على القطاع.
الجواب سهل وبسيط، وهو ان الحكومة الإسرائيلية حددت هامش المناورة التي تقبل به للصفقة، وإعادة الإعمار وتخفيف الحصار، وان هذا الهامش لن يتم التراجع عنه لأن من شأن ذلك ان يؤدي إلى انهيار ائتلافها، وان الحرب بالتالي تتحول إلى خيار أول، والى أولوية مباشرة وذلك لأن الحرب في هذه الحالة تتحول إلى عامل إنقاذ للحكومة الإسرائيلية، والحيلولة دون سقوطها. وفي هذه الحالة فإن على فصائل العمل العسكري في القطاع «تحمل» تبعاتها المادية والأمنية والاقتصادية والنفسية، إضافة إلى البعد السياسي لهذه المسألة وما يمكن أن يؤدي بإخراج هذه الفصائل من دائرة التداول السياسي كطرف مرشح للدخول في دائرة هذا التداول.
هذا الأمر بالذات هو سبب جوهري - كما أرى - ليس لتشدد الفصائل والتمسك بشروط معينة، وإنما لحسابات سياسية دقيقة لا تستطيع الفصائل تجاهلها، هذا إذا لم نقل لحسابات تبحث عنها، وتحاول بكل السبل، والوسائل تسويق نفسها للعالم وللإقليم لكي تكون مبررا رئيسا من هذا التداول.
ثانيا: بتنا نعرف جيداً، الآن، ان دخول اللوجستيات المصرية إلى القطاع وبهذا القدر لا يمكن أن يكون معزولا عن تفاهمات مصرية مع الجانب الإسرائيلي من جهة ومع الفصائل الفلسطينية من جهة أخرى.
هذا الدخول يعكس في الواقع اعتراف الجانب الإسرائيلي بثقل ومحورية الدور المصري بالقطاع، خصوصا بعد أن فهمت القيادة السياسية في إسرائيل الدعم الأميركي الهائل للدور المصري هذا إذا لم نقل «والتعويل» عليه أيضاً.
بطبيعة الحال ما كانت مصر هي بدورها ان تبدأ بهذا الطور الجديد من دورها ومكانتها وتدخلها اللوجستي الكبير لولا انها «اشتمت» رائحة «ما» من الرفض الحمساوي للشراكة الوطنية وفق الأسس والمبادئ التي كانت في عداد المتوافق عليها، وذهاب «حماس» إلى ما هو أبعد بكثير من تلك الشروط، والى ما هو تعجيزي بكل ما في هذه الكلمة من معنى، وبما قد يؤدي إلى صفقة كبيرة تعدها قطر وتركيا وربما إيران أيضاً لصالح حركة حماس، وكذلك حركة الجهاد الإسلامي وبعض الفصائل العسكرية والسياسية الأخرى.
اقصد ان مصر لم تكن لتترك صفقة من هذا القبيل بأن تمرّ دون اعتراض من القاهرة، ودون ان تقوم هي بنفسها بالمبادرة بكل السبل والوسائل لقطع الطريق على تلك الصفقة.
وحتى لو ان تلك الصفقة كانت مجرد فرضية نظرية فقط، وحتى لو ان التقارب أو محاولات التقرب المصري مع كل من قطر وتركيا ما زالت مستمرة، وان بعض التقدم قد حصل فعلا على هذا الصعيد، إلا ان مصر - كما أرى - لا يمكنها ان تترك صفقة من هذا النوع للصدف السياسية او مرهونة ومرتهنة لمحاولات التقارب ونتائجها.
وجدت حركة حماس والفصائل العسكرية التي تدور في فلكها بهذا القدر او ذاك نفسها أمام خيارات صعبة:
فأما انها ستغامر بحرب جديدة دون قدرة مصرية مباشرة وقوية لوقفها ووقف تداعياتها او التعويل على الدورين القطري والتركي، وهو تعويل ينطوي على أعلى درجات المغامرة السياسية، خصوصاً إذا ما كانت الصفقة ستؤدي الى محاولة تهميش الدور المصري او المراهنة على تقاسم نفوذها مع النفوذ القطري والتركي.
ثالثاً: الخيار الذي تبحث عنه حركة حماس وحلفاؤها اصبح من الناحية الموضوعية محصورا في الصفقة مع الاحتلال بدور مباشر من مصر وليس بالتوازي مع الدوري القطري والتركي، إلا من حيث بعض المظاهر الشكلية، وبما لا يضعها (أي حركة حماس) في موضع المساءلة السياسية الكبيرة في الساحة الفلسطينية لصفقة كهذه تضع حركة حماس في حرج سياسي كبير، خلافا لخطابها الإعلامي والسياسي الذي حاولت من خلاله بعد الحرب الأخيرة تسويق نفسها وكأنها الجديرة بقيادة الشعب والأمينة على مصالحه والقادرة على «حماية» مشروعه الوطني.
ليس هذا فقط، وإنما الحرج السياسي الكبير الذي ستواجه به من بعض حلفائها الداخليين وخصوصا حركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بل وحتى الجبهة الديمقراطية أيضاً.
ولهذا كله فإن كل ما يدور، اليوم، من «حراك» سياسي لضم حركة حماس الى المسار السياسي في المنطقة لن يخرج أبداً عن إقناعها بضرورة التخلي الكامل والنهائي عن الخيارات العسكرية، وعن كل ما يمكن ان يؤدي الى الخيارات العسكرية، إذا أرادت ان يكون لها أي دور جديد (معترف به) وبشرط ان تبدي هي بدورها المرونة الكافية لتسهيل انخراطها في هذا المسار وللحصول على هذا الدور.
باختصار، فإن ما تحاول ان تسوقه الفصائل المسلحة وقواها السياسية من ان اليد على الزناد، (وان عدتم عدنا)، وان على إسرائيل ان تقبل بشروط هذه الفصائل لصفقة تبادل الأسرى، او إعادة الإعمار، والأموال القطرية، او بعض الإجراءات التي من شأنها التخفيف من بعض الإجراءات الخانقة ليست في الواقع سوى مناورات، ومناورات مكشوفة تماما للإسرائيليين والمصريين وكل المؤثرين والمراقبين الإقليميين والداخليين على حد سواء.
رابعاً وأخيراً: الزيارات الأخيرة التي قامت بها بعض القيادات الحمساوية وخصوصا الجولة التي قادها الأخ إسماعيل هنية لا يمكن تفسيرها سوى بأنها لإظهار سياسة مسك العصا من المنتصف، ذلك ان الأمر يتعلق برسائل إلى كل من يهمهم الأمر بأن حركة حماس جاهزة «للدور» الجديد، وعازمة على ان تلعبه بالكامل، لكنها لن تتخلى عن لغة التهديد بالسلاح إلى ان يتم وضع قدم الحركة على مسار التداول الرسمي، والقبول والتقبل الضمني أولا ثم المرسم تاليا، وحينها فقط سيتم بصورة رسمية وعلنية إعلان انتهاء الحروب، حروب القطاع والحروب عليه، وأظنه قريبا وقريبا للغاية.