نابلس - عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - ربما أكثر شيء ملفت في الوقفة الفلسطينية الجادة تجاه ما يجري في الشيخ جراح هو الهبّة الجماهيرية للفلسطينيين في الداخل. بدا الأمر مفاجئاً، فالناس خرجت عن بكرة أبيها، في كل مدينة وقرية في مرج ابن عامر وصحراء النقب وفي المدن الساحلية وفي الجبل، لتقول بجلاء ووضوح: إنها لن تقبل المساس بأهم رمز ديني وهوياتي للفلسطينيين، أي المسجد الأقصى.
طوال العقود السبعة الماضية ظنت إسرائيل واهمة أنها نجحت في جعل مطالب سكانها العرب، الذين نجحوا بالبقاء في مدنهم وقراهم رغم فعل النكبة القاهر، مجرد مطالب مدنية تتعلق بتطوير حياتهم وتطوير جودة الخدمات التي يتلقونها من الدولة. لكن ما حدث جعل هذا الاعتقاد مجرد خرافة تنهار أمام أول مواجهة مع الحقيقة. فالمواطنون الذين كان يراد لهم أن يتحولوا إلى ترس في ماكنة الأسرلة، وأن يتناسوا الفعل القاتل الذي تعرض له أجدادهم قبل ثلاثة وسبعين عاماً، خرجوا يرفعون علم فلسطين ويهتفون لفلسطين مثلما فعل أجدادهم قبل مائة عام وهم يصدحون بعروبة البلاد أمام الجلاد البريطاني. مشاهد يافا تذكر بمسيرات يافا في العشرينيات والثلاثينيات، كذلك مشاهد اللد والرملة، وحيفا. كأن ثمة زمناً مستقطعاً سقط من جعبة "الذاكرة"، كأن ثمة مخرجاً محترفاً أزاح من بكرة الفيلم سنوات وسنوات وعاد بنا إلى نوستالجيا وطنية مشبعة بالحسرة.
المشهد السابق أغرقنا بالحنين لكنه لم يكن جديداً، فنضال أهلنا في الداخل من أجل فلسطينيتهم ودفاعاً عن عروبتهم وتمسكاً بهويتهم لم يتوقف، لكنه تعرض لعمليات قهر غير إنسانية، وكان يجب البحث عن بدائل كفاحية من أجل الحفاظ على هذا الوجود الذي لم ينقطع منذ وجدت الحياة على هذه الأرض. ومع هذا فإن ما حدث في المدن والقرى والبادية كان تذكيراً بسيطاً بأن الأجيال لا تنسى وأن الشعب شعب واحد مهما اختلفت السياقات وتبدلت السنين. وأمام ما كانت تهدف له دولة الاحتلال من تدجين للشخصية العربية وتذويبها وتفتيت مكونات الهوية للمواطنين الفلسطينيين في الداخل وتحويلهم لمواطنين مؤسرلين، لا هم لهم إلا تطور حياتهم التي هي في أفضل حالتها لا ترقي إلا لمستوى ثالث ورابع بعد مستويات المواطنين اليهود. كان على الأقلية، التي كانت أكثرية وكانت تعمر الأرض، أن ترضى بما يقسم لها الحاكم الجديد. والأقلية العددية ثبت أو أثبتت أنها أكثرية معنوية لأنها صاحبة الحكاية الأصلية عن هذه البلاد. كأن يافا اشتاقت لتظاهرات أهلها وهتافهم لفلسطين وللأقصى، وكأنها عاد بها الحنين إلى زمن الثورات، وكأن حيفا غسلها الموج بذكريات الماضي.
هكذا كأننا عشرون مستحيل، بل نحن مليون مستحيل. ثمة من يقول: إن الحكاية الأصلية عن البلاد لم يتم سرقتها، صحيح أن الغزاة حاولوا صبغها بألوان غير حقيقة، لكنهم لم يفلحوا في تغيير جوهرها. هناك حكاية لم تتبدل، ظن الغزاة أنهم بدلوا وحرفوا بها، لكن ما جرى ينفي كل ذلك.
إن من خرجوا في كل التظاهرات يؤكدون حقيقة واحدة أن النكبة فعل مستمر، لكنه لم يقهر الفلسطيني ولم ينجح في انتزاع فلسطين منه. إن كل ما فعله الاحتلال لم ينجح في كسر الروح الفلسطينية المستبسلة في القتال من أجل الحق الوطني والذي في المركز منه حق العودة واستعادة البلاد. النكبة فعل مستمر لم ينته، وجرائم الاحتلال لن تركع شعبنا، والغزاة رغم كل ما فعلوه وارتكبوه من مجازر لم يفلحوا في سرقة البلاد ومحوها كما كانوا يخططون. لم نصبح حكايات من الماضي، ولم نندثر مع ريح الخريف وهي تكنس أوراق الأشجار، بقينا في البلاد، وصمدنا في وجه كل محاولات الطمس والإذابة ولم يقتلنا سكين اللص، ظللنا نتنفس والدم ينزف، ولن نفني ولن نذهب إلى أي مكان آخر.
إن مراجعة ما تعرضنا له من سياسات وأهوال تقول: إن خبرات التاريخ شهدت أن شعوباً كاملة اختفت واندثرت حين تعرضت لنصف ما تعرض له شعبنا. إن السر الحقيقي لهذا البقاء إلى جانب نضالنا وقتالنا من أجل وجودنا هو قوة حكايتنا. صحيح أن كل الشعوب ترتبط ببلادها وكل الجماعات لها تصوراتها حول مكانها، لكن ثمة شيئاً خاصاً حين يتعلق الأمر ببلادنا التي منحناها شكلها وهويتها ومنحتنا رائحتها وكنهها. إنه السر الذي جعل منها مهد الأبجدية ومهد العلاقة بين السماء والأرض قبل التوحيد حتى، إنه السر الذي جعل منها مطمع كل الغزاة وجعل منها ممر كل باحث عن مجد وفاتح.
إن ما يتعرض له شعبنا في القدس من تهجير وتدنيس للمقدسات، وفي غزة من قتل وترويع وقصف بربري، وفي الداخل المحتل من تطهير وتمييز عنصري، وشعبنا في الشتات من حرمانهم العودة إلى بلادهم، كل ذلك ليس إلا استمراراً لنفس اللحظة التاريخية قبل 73 عاماً، حين تم اقتلاع السكان العزل من بيوتهم في المدن والقرى والوديان والبادية، وتمت أوسع عملية تطهير عرقي في التاريخ، حين أراد الغزاة اللصوص أن يمحوا الوجود الفلسطيني بشكل كامل من أرض الفلسطينيين الأبدية. إن الفلسطيني سيظل حاضراً في المكان وفي متن حكاية البقاء في هذه البلاد وسيذهب الغزاة وتبقى فلسطين. هكذا على الأرض تقول المشاهد المستمرة التي عصفت بالمدن والقرى الفلسطينية في الداخل. فالبلاد لأصحابها مهما طال الزمن.