نابلس - منال الزعبي - النجاح الإخباري - يحدثُ أن  تطعمنا الحياة الصبر بأشواكه، فيصيح الألم معلنًا عن نفسه، أم شهد، أو إلهام المغربي سيّدة جبّارة تحمّلت ما لا يطاق، اغتيلت طفولتها، وصودرت سنوات شبابها، وضاقت خيارات الحياة أمامها لتشق من الصخر طريقها. 

في مخيم عسكر  بمدينة نابلس، طرقنا عليها الباب لسماع قصتها فاستيقظت كلّ الأوجاع الرابضة في قلبها، استقبلتنا دموعها في بيت يؤثثه الرجاء، تعيش أم شهد وابنتها رفقة معاناة ينطق بها كلّ ساكن في ذلك البيت.

قد تظنّها سيّدة تعيل نفسها فحسب! إلا أنّك بمجرد أن تراها تقلّب أشواك العكوب بيدها تعرف أنّها عاركت الكثير حتى هان ألم الأشواك على يديها. 

شاءت الأقدار أن تكون من الصنف الذي عرف مغزى الحياة ففقد معانيها بعد تجربة الأسر، إذ شكّل الألم في حياتها أمرًا لا مفرّ منه.

قبضت أشواك العكوب بشدّة وهي تروي لـ "النجاح" قصّتها: "أنا مواليد 1981، بدأت حكايتي عام 1994 لمّا رافقت إمي بزيارة لأختي المتزوجة بالأردن، وهناك تقدّملي أخو زوجها، وأهلي وافقوا رغم إنه عمري 13 سنة".

وتوضح المغربي رحلة اغتيال طفولتها بمزيد من المرارة التي كانت تتعالى كلما غاصت بذاكرتها، في حين يقبض الألم على حنجرتها فتغص بالكلمات: 

"كان زوجًا ولم يكن شريك حياة، عشت معه أشهر قليلة، هو من عائلة كويتية بلا وثائق، فاضطر لشراء الجنسية العراقية وهو موالٍ لنظام صدام حسين، بعد خمسة شهور من الزواج سافر للسعودية فتم أسره على خلفية سياسية؛ ليغيب أربع سنوات، يخرج بعدها شهورا ثمّ يسجن مجددًا، خرج في 2002 والتقيته آخر مرّة  قبل أن يختفي بشكل نهائي".

تركها حاملًا بابنتها شهد التي لم تعرف والدها، وكان قدر الأم أن تعيش العذابات وحدها،  الأمر الذي أثقل على شابة بعمرها سلبت طفولتها وشبابها لتواجه القدر ككف عارٍ يواجه المخرز، أصيبت بسرطان الأمعاء الذي بدأ يفتك بجسدها النحيل، وبدأت دوافع العيش تتلاشى من أمامها، بعد سيل من المعاناة التي كانت تتربص بها أينما حلّت.

عادت المغربي لفلسطين،  وتمتعت بحس وطنيّ عالٍ جرفها لتيار تنظيمي إبان انتفاضة الأقصى؛ لتجد نفسها متورّطة بقضية أودت بها لسجون الاحتلال بعد عمليّة دهم انتزعت طفلتها شهد ذات الشهرين من حضنها وزجتها بأحضان عتمة الزنازين، حكمت 15 عامًا تم تخفيفها لخمسة أعوام، ثمَّ الإفراج في صفقة حسن نصر الله، بعد معاناة وأزمة نفسية ألمت بها، تعرضت خلالها لشتى صنوف العذاب في الأسر ما تسبب لها بفقدان الرؤية بعينها اليسرى إثر ضربة على الدماغ بعد أن خاضت تجربة الإضراب عن الطعام، خرجت المغربي للحياة بعصارة ألم مرير، كانت شهد بين يدي جدتها لأمها، والتي سرعان ما سرقها الموت لتواجه إلهام من جديد القدر وحدها. 

بدأت رحلة المصير المجهول حسب قولها: "التقيت الرئيس الشهيد ياسر عرفات في رام الله، كان عطوفًا حنونًا، كرّمني لقّبني بزوجة الشهيد العراقي، ومنحني وظيفة لم تلبث أن سحبت مني بعد فترة ليست طويلة، وبعد أن تمّ تصنيفي ضمن الجرحى كنت أتلقى راتبًا شهريًا قدره 1200 شيكل، تمّ تقليصه فيما بعد لـ 600، يخصم منها البنك 300 شيكل لقرض استدنته لأعيل نفسي وابنتي وأسدد تكاليف العلاج، لأمراض كثيرة هاجمتني، ألم في الرأس، عين فيها عجز بنسبة 62%، سكري، غير الألم النفسي هذا أعجز عن وصفه".

 تعالت فكرة الموت سحابة خانقة أحاطت بها، وحجبت عنها أي أمل بغدٍ أجمل تصنع به مستقبلا لابنتها اليتيمة، وبسبب خوفها الشديد على ابنتها شهد من أن تفقد أمها وتظل وحدها، وافقت على زواجها وهي ابنه 16 عامًا، من شاب خليلي من الأقارب، هنا وقفت الكلمات وأشهرت سيوفها بحلق إلهام، فخرج الصوت مبحوحًا مقطّعًا: "ظننت أنني أؤمن مستقبلها، فكانت الصاعقة، بسوء معاملتها، وصولا لولادة مبكرة ثمّ موت الجنين الذي عاش شهرًا في العناية الحثيثة، ثمّ الطلاق".

وأضافت بعيون تفيض دمعًا: "أنا ظلمتها، عاركت الدنيا طويلا، ولم تكسرني سوى دموع شهد".

عادت شهد لحضن والدتها ليكتمل مصابها، كانت تعيل نفسها وابنتها طيلة الوقت بكل ما تطاله يدها، عملت في مواسم العكوب الذي كانت حياتها أقسى من أشواكه، وفي مصانع التمور في أريحا، وفي محال الملابس وحتى في التنظيف ما استنزفها نفسيًّا، لم تجد المغربي وابنتها عونًا وسندًا سوى الله ذاقت عذاب الفقد لكل من حولها، زوجها ووالدها ووالدتها، وحتى زوجة أخيها الوحيد التي كانت صديقة وحبيبة ماتت وخلتها وحدها.

أم شهد تعيش اليوم في بيت العائلة الذي فرغ من أهله، تعيل نفسها وابنتها من المواسم، لا سيما العكوب، والطبخ المنزلي حيث عمدت للطبخ وترويجه على صفحات التواصل الاجتماعي لتتلقى التواصي بعد أن نال طعامها إعجاب كلّ من ذاقه، لكن هل يكفي ذلك مصاريف بيت وعلاج، ويؤمن مستقبل فتاة بعمر 19 عامًا؟

أم شهد أيقونة كفاح، ونموذج لسيّدة بألف رجل تشق طريقها من صخر الحياة بعزم لا يلين.