د.هاني العقاد - النجاح الإخباري - أعلن هذا الأسبوع عن توصل واشنطن والسودان وإسرائيل إلى اتفاق تطبيع جديد اعتبره نتنياهو تقدمًا كبيرًا نحو السلام وبداية عهد جديد، واعتبر أنَّ توصل حكومته لاتفاقات تطبيع  علاقات مع الإمارات والبحرين والسودان جاء نتيجة نهج حكومة اليمين الإسرائيلي الرامي إلى "السلام من منطق القوة  "واعتبر أنَّ هذا السلام هو مقابل السلام، والاقتصاد مقابل الاقتصاد.

يبدو أنَّ نتنياهو يعتبرقوة إسرائيل في المنطقة هي التي مهدت الطريق للوصول إلى هذه الاتفاقات وهذا فيه شيئ من الواقع لكن ليس قوة إسرائيل وحدها بل نفوذ الولايات المتحدة وخصوصًا إدارة ترامب التي تركز في تطبيق صفقة القرن عبر مسار السلام بين إسرائيل والعرب أولاً، لذلك يعتبر نتنياهو الآن قضايا التطبيع قضايا سلام كبيرة وضرورات قومية إسرائيلية، ويبدو أنَّه يعتبر كلَّ اتفاق تطبيع مع كل دولة عربية يتوصل إليه بمساعدة وضغط إدارة ترامب يغلق الطريق أمام سلام بارادة دولية مع الفلسطينيين، لذلك يعتبر أنَّ المحادثات السرية التي تجري الآن في عواصم عربية بين فرق أمريكية إسرائيلية مشتركة وبعض القادة العرب للدخول في دائرة التطبيع وعقد اتفاقات مشابهة لاتفاقات الإمارات والبحرين والسودان  أمر أمن قومي لإسرائيل، وخاصة أنَّ الحديث الآن يدور حول إغراء السعودية وقطر بالولوج في دائرة  التطبيع مع إسرائيل والإعلان عن اتفاق ثلاثي قبل الانتخابات الأمريكية لكون ذلك سيعزز فرص نجاح ترامب. 
كل هذا السعي الأمريكي الإسرائيلي نحو مزيد من اتفاقات التطبيع يعني أنَّ السلام مع الفلسطينين لم يعد ضرورة قومية إسرئيلية، ولم يعد حلّ الصراع مع الفلسطينيين على سلم أوليات حكومة إسرائيل ولا تريد أن تسعى إليه أو حتى ترغب بأن يتحدث أيٌّ من الفلسطينين عنه، لذلك هيَّأ نتنياهو الطريق أمام ذلك  بالخروج فعليا من اتفاق  اوسلوا بطريقته وبدا منذ تولية حكومة اليمين يعمل بعكس إطار اتفاقاتها حتى باتت كلُّ اتفاقيات اوسلو اليوم وراء ظهر إسرائيل وأصبح بقاء الفلسطينيين في إطارها لا معني له.

هذه عادة إسرائيل ومنهجها في التعامل مع الاتفاقات فلم تكمل إسرائيل أيَّ اتفاق في تاريخها إلا بالقوة حتى تلك الاتفاقات في كامب ديفيد مع مصر، و وادي عربة مع الأردن التي لم تفضي إلى تطبيع بالشكل الذي نراه الان مع الإمارات والبحرين  ولم تسمح تلك الاتفاقات لهرولة الشعبين نحو تل ابيب، ولم تدشن مصر أو الأردن خطوط ملاحية سياحية وتجارية عبر البحر المتوسط كما فعلت الإمارات مؤخراً، مع اتفاقات التطبيع  اليوم نسخت إسرائيل كل معادلات حل الصراع من استراتيجيتها السياسية، وألغت كلَّ المرجعيات، وباتت شيئًا من الماضي حتى مباردة السلام العربية 2002 باتت السعودية تتحدث عنها بلغة خجولة، وهذا جعل إسرائيل  تتنكر لكل مبادئ السلام  وحل الصراع، وتتنكر لكل القرارات الأممية التي صدرت بشأن تسوية الصراع مع الفلسطينيين.

تعتبر إسرائيل اليوم أنَّه ليس أمامها سوى صفقة ترامب ومخطط الضم بالضفة الغربية وهذه في حد نظر نتنياهو المبادرة الوحيدة التي تعمل إسرائيل على تطبيقها بالاشتراك مع الأمريكان والعرب المطبعين  وما يهمهم وضع الفلسطينيين أمام سياسية الأمر الواقع!

هذا كله يعني أنَّ إسرائيل تنفِّذ مباردة ترامب من طرف واحد ولا تكترث إلا بوضع الفلسطينين تحت الوصاية الأمنية طويلة الأمد. 
لعله أصبح مهمًا أن يركز الفلسطينيون في سبل إجبار نتنياهو على إعادة صياغة ضرورات إسرائيل القومية  من جديد، ويمكنهم فعل ذلك كما يمكنهم قلب الطاولة في وجه الجميع، بل وإفراغ كل اتفاقات التطبيع من محتواها، الفلسطينيون وحدهم قادرون على قلب موازين هذه الضرورات وإجبار إسرائيل على إعادة صياغتها بالشكل المنطقي، لكن كيف يمكن أن يفعل الفلسطينيون هذا في وقت يفرض العرب و الأمريكان عليهم حصارًا شديدًا جدًا يهدف لتركيعهم وإجبارهم على الدخول في دائرة التطبيع الأمريكية الإسرائيلية والقبول بالمبادرة الأمريكية والانخراط في عملية سلام لا تعطي الفلسطينيين حتى هويَّة؟!

 الخيار الوحيد الذي ترك للفلسطينيين هو قلب الموازين وضرب مسارات التطبيع وإفشال مخطط ترامب نتنياهو، وإسقاط الضم،  ولا يأتي ذلك إلا من خلال توحيد الجهود الوطنية، واستعادة الوحدة على أساس هذا الخيار الذي لا يحتاج إلى نقاش كبير، ولا إلى مزيد من تضيع الوقت ولا اتفاق فصائلي يتطلب عقد المزيد من جولات الحوار للأمناء العامين ولا يحتاج إلى  فلسفة وطنية جديدة، لكنَّه يحتاج بالمقام الأول لتعزيز وطني ورعاية رسمية لانتفاضة جديدة بكل المقايس الثورية. 
لعل تباطؤ الفلسطينيين في اللجوء إلى خيار الانتفاضة الوطنية الجماهيرية الشاملة، وتباطؤ القيادة الوطنية الموحدة التي شكلت بعد اجتماع الأمناء العامين في قيادة الجماهير الفلسطينية الثائرة و توجيهها نحو الاشتباك الحقيقي مع المحتل في كل المدن وعلى نقاط التماس كافة، والمحاور والساحات والجبهات كان سببًا ليجد نتنياهو ضرورات قومية غير الإقرار بالحقوق الفلسطينية  والاعتراف بالفلسطينيين كشعب له حق تقرير المصير بنفسه، وكان ذلك سببًا لأن يتجاهل نتنياهو واقع الصراع وحقيقته ويبحت عن اتفاقات تطبيع هنا وهناك، كما كان سببًا لأن يختار فريق ترامب المافون مسار غير المسار الفلسطيني ليتعامل معه وينكر الحقوق الفلسطينية والمرجعيات والأسس والقرارات الشرعية التي يمكن أن تكون قواعد شرعية حقيقية لتطبيق حقيقي لحل الدولتين، ولعل كلَّ تاخير في توسيع دوائر الاشتباك  الجماهيري مع الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه يعني مزيدًا من الحصار للفلسطينيين ومزيدًا من المؤامرات لتفكيك القضايا الوطنية الكبيرة والأساسية، والتنكر للحلول العادلة والشاملة التي وحدها يمكن أن توفِّر الأمن والاستقرار لشعوب المنطقة وتجعل مسارات التطبيع مسارات لا تشكِّل خطرًا على الثوابت الفلسطينية.