نابلس - عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - للجامعة العربية مليون خطأ، ولا يمكن الحديث عن الحالة العربية دون الإشارة إلى قصور الجامعة الكبير في لملمة الوضع العربي، ومع هذا تظل المكان الوحيد المتوفر الذي يمكن أن يقال: إن العرب يجتمعون تحت قبته. لا بد أن نقول «للأسف» مع هذا، إذ إن كل مشاريع التكامل والوحدة وحتى التنسيق العربي فشلت في جعل العرب وحدة واحدة، وتراجع الكثير من المقولات القومية بأشكال مختلفة، فيما لم تفلح كل محاولات تجميع الدول العربية في تحسين الواقع العربي. ورغم ذلك ظلت الجامعة البيت الصغير الذي يمكن من خلاله تنسيق بعض السياسات حتى مع عدم التوافق بشأنها. هذا محزن، لكنه مع هذا يشكل الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن يُشهد بها للجامعة.
وقراءة التاريخ العربي خلال قرن من الزمن تفضح أكثر مما تستر وتغم أكثر مما تسر. إنه تاريخ ظل التمسك فيه بحالة التمزق على حساب المصلحة الجمعية الشاملة سيد الموقف، بل إن بعض البلدان التي لم تكن بلداناً قبل عقود أخذت الأمر إلى أبعد من حدوده وصارت تحمل سيوفاً تمزق بها الجسد العربي، والبعض الآخر خاض حروباً ضد بعضه البعض من أجل ممالك وحدود صنعها الاستعمار وضباطه وهم يحتسون الجن والتونك بعد أن أوقعوا هزيمة نكراء بالدولة العثمانية قبل قرابة قرن. صحيح أن حال السياسة غريب دائماً، ولكن الغريب حقاً هو الجهل العربي بواقع تلك السياسة.
وتجارب الوحدة العربية مريرة والاستذكار يثير الشجون. فالوحدة بين مصر وسورية أيام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر لم يبق من ذكراها إلا اسم مقهى «سوق الحميدية» في باب اللوق في القاهرة، وإشارات خفيفة في بعض النصوص الأدبية وربما مسلسل أو اثنين، ومحاضرات في منهاج العلوم السياسية في بعض الجامعات. واختفت الأفكار القومية الكبرى التي كانت ترى في الحلم العربي أمراً واقعاً لا بد أن يتحقق. على الأقل مر زمن كانت فيه تلك الأفكار موجودة ويتم تداولها وربما شاع الغضب والصراع الفكري من أجل إثبات صحتها، وعلى ما شهدته الحالة العربية من تجاذبات «قومية» بين مدارس مختلفة من الناصرية إلى القومية الصرفة إلى البعثية، فقد كانت ثمة فكرة يتم السعي وراءها.
انظروا أيضاً فشل حتى المشاريع التكاملية على صُعد أضيق وأصغر. ربما أكثر هذه النماذج بروزاً كانت تجربة مجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغاربي العربي. التجربة الأولى شهدت بعض التقدم إذ كانت تشكل نوعاً ما نادي الأغنياء الأثرياء أصحاب براميل النفط وآبار الغاز، وكانت ثمة حاجة لوجود تنسيق مرتفع المستوي من أجل ضمان تحقيق المصالح. وربما أن تشابه النظم السياسية الحاكمة ساهم في تطوير بعض آليات التعاون بين المشايخ والإمارات والممالك والسلطنات. حتى أن المجلس خاض حوارات في المجال الاقتصادي نيابة عن دولة مع بعض التكتلات الاقتصادية مثل الحوار مع الاتحاد الأوروبي كانت متقدمة عن مجمل علاقات الأخير مع الدول العربية. مرة أخرى، فإن الأمر يرتبط بعلاقة الأغنياء في العالم العربي مع أغنياء أوروبا. ومع هذا تعثر المجلس وتفككت أواصره مع الخلاف السياسي بين دول المجلس لأنه نشأ في الأساس على قاعدة الحفاظ على المصالح لا تطوير مصالح مشتركة.
أما التجربة الأخرى المتمثلة بالاتحاد المغاربي العربي، فلم تشكل نقلة حقيقة في العمل السياسي بين بلدان المغرب العربي، وطغى الخلاف السياسي على أطر التعاون والتكامل بين تلك البلدان، رغم وجود الكثير من آفاق تطوير هذه الأطر بسبب خصوصية تلك المنطقة العربية وطبيعة علاقتها مع أوروبا المرتبطة بتاريخها الحديث. وبالتأكيد ثمة محاولات أخرى ظهرت كأفكار تتعلق ببلاد الشام والهلال الخصيب وغير ذلك، لكن ظل واضحاً أن الدولة القطرية العربية التي وجدت بقرار استعماري نجحت في غرس نفسها عميقاً في وعي المصالح الناظم والمحدد لتوجهات نخبها ما بعد الاستعمارية.
عموماً، وأمام كل ذلك ظلت الجامعة العربية منذ ظهورها مؤسسة يمكن للجميع أن يكون جزءاً منها، دون أن يعني هذا أنها تعمل شيئاً حقيقياً على صعيد خلق أطر وبرامج تعاون وتكامل حقيقية بين الدول الأعضاء، بل إنها فشلت في منع الحروب بين بعض هؤلاء الأعضاء، ووقفت عاجزة وهي ترى بعضها يحتل وتشارك جيوش البعض الآخر مع القوات المعتدية لتدميره. قصة حزينة وتاريخ لا يثير أي حماسة وفخر.
ومع هذا، فإن الوجود الفلسطيني في الجامعة العربية على علة تلك الجامعة ضروري ولا يجب التفريط به، ليس من باب الحاجة، إذ إن الجامعة هي التي بحاجة لفلسطين في كل الأوقات رغم هرولة المطبعين وقلة حياء المهرولين وقلة مروءة مقبلي أيدي الاحتلال، بل من أجل الحفاظ على الحالة العربية. لقد كان قدر فلسطين دائماً أن تظل في طليعة كفاح الأمة ضد الاستعمار، ومهما تخاذل البعض فإن هذا يجب ألا يثني فلسطين عن القيام بهذا الدور. وعليه فإن إصلاح الجامعة يجب أن يتم وضعه مرة أخرى على طاولة النقاش حتى لا تتم سرقة إرادة المؤسسة الجمعية العربية بالمال الملوث بالتطبيع.
من المؤكد مع هذا أن الجامعة بكل ما عليها، لها الكثير الذي يجب استذكاره عند الحديث عن النضال السياسي والدبلوماسي الفلسطيني في السبعينيات والثمانينيات، خاصة أن الفلسطينيين كانوا يترأسون بعض وفود الجامعة في الحوارات مع بعض القوى الدولية، وهذا أعطانا نافذة كبيرة لخلق حوارات ثنائية ساهمت في تعزيز قضيتنا. اقرؤوا كتاب خالد الحسن «دبلوماسية المواجهة» حول الحوار مع المجموعة الأوروبية. وأيضاً حتى لا نفقد مكاناً يمكن فيه أن نمنع الآخرين من تلويث الحالة السياسية العربية بشكل أكثر، وحتى نناضل من أجل الحالة العربية التي كان يحلم بها شهداؤنا.