الياس سحاب - النجاح الإخباري - منذ ولادة المجتمعات البشرية السياسية في التاريخ السياسي السحيق للمجتمع الدولي، كان العامل الاقتصادي أحد أبرز محركات التاريخ البشري، وما سمي بالسياسة الدولية. فالعامل الاقتصادي كان، منذ قديم الزمان، عاملاً أساسياً في تحريك الجيوش في المجتمعات البشرية القديمة، كما الحديثة، والعامل الاقتصادي كان محركاً أساسياً وراء تحركات المكتشفين الجغرافيين في شتى أرجاء العالم القديم، وبالذات كان العامل الاقتصادي أحد أبرز العوامل، إن لم يكن أبرزها، في تحريك حملة كريستوفر كولمبوس في العام 1492 لاستكشاف طريق آخر للانتقال البحري من بلاد أوروبا الى بلاد الهند، فإذا به يكتشف أحدث القارات في العالم، قارة أمريكا التي سميت لهذا السبب «العالم الجديد».

تلك كانت إحدى أشهر محطات التاريخ البشري في لعب الاقتصاد العالمي دور محرك أساسي في الحياة السياسية للمجتمعات البشرية. وقد ازداد مع الأيام الدور الأساسي المحرك للتاريخ، للعامل الاقتصادي، في تاريخ القرون التالية التي ظلت تتطور حتى الدخول أخيراً إلى القرن العشرين، والقرن الحادي والعشرين. فدور العامل الاقتصادي كان سبباً أساسياً في «العدوان الثلاثي» على مصر ، بعد قرارها بتأميم قناة السويس في منتصف القرن العشرين، والدور الأساسي والمركزي في فتح شهية الولايات المتحدة على غزو العراق، في مطلع القرن الحادي والعشرين الحالي.

إذاً، من الثابت منذ أقدم حقب تاريخ المجتمعات البشرية السياسية، حتى يومنا هذا، الدور المركزي للاقتصاد وللتجارة الدولية في تحريك الخلافات، والصدامات السياسية في التاريخ، قديمه وحديثه، حتى جاء الفيلسوف الألماني في القرن التاسع عشر كارل ماركس، بنظريته الشهيرة المعروفة بالماركسية، في تحليل وتثبيت دور العوامل الاقتصادية المركزي في تحريك الأحداث السياسية والاجتماعية في الحياة البشرية.

لكن مع كل هذا التاريخ الطويل لتحديد عامل الاقتصاد والتجارة العالمية في تحريك الأحداث السياسية، فإننا نشهد اليوم أحد أغرب مشاهد ما يشبه حرباً تجارية عالمية، تكاد تغطي في وقت واحد، كل أرجاء الكرة الأرضية.

إنه مشهد الاندفاع الأمريكي السياسي على شن حروب متفرقة، في كل الاتجاهات، في مجال التجارة الدولية، في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

فمع الصمت شبه الكامل الذي يحيط محل الحروب العسكرية التقليدية في شتى أرجاء العالم، فإن ضجيجاً صاخباً يصدر عن الحرب التجارية العالمية التي تصدرها تحركات السياسة الدولية للولايات المتحدة، مع اقتراب نهاية الربع الأول من القرن الجديد، الحادي والعشرين.

ففي مجال العلاقات الدولية بين الولايات المتحدة، وكل من روسيا، وخاصة الصين، العملاق الاقتصادي الأول في المرحلة التاريخية الراهنة، يعلو ضجيج الحرب التجارية العالمية، التي أعلنتها الولايات المتحدة على الصين، في مجال فرض ما يمكن تشبيهه بعقوبات اقتصادية تشن عليها، من خلال رفع الرسوم الجمركية الحمائية في وجه عشرات، بل مئات مليارات الدولارات، في مجال التعاملات الاقتصادية التجارية بين البلدين، وبالذات في مجال ما تستورده الولايات المتحدة من الصين.

وإذا ابتعدنا قليلاً عن هذا المجال في العلاقات الدولية، فإننا نرى أن اندفاع السياسة «الترامبية» الجديدة للولايات المتحدة ، قد ذهبت بعيداً إلى حد أنها اخترعت أسلوباً جديداً بدل شن الحروب العسكرية المباشرة للعب دور في صراعاتها الدولية في المناطق الحساسة من العالم، فاخترعت ونشرت أسلوباً جديداً اسمه فرض العقوبات «الاقتصادية»، بدل شن الحروب العسكرية، وذلك واضح في أسلوب تصرف أمريكا في سياستها الدولية إزاء نزاعاتها السياسية في منطقة مثل ما يسمى في السياسة الدولية «الشرق الأوسط».

لكن أبعد نقطة ذهب إليها الهياج الأمريكي في شن الحروب التجارية، بدل الحروب العسكرية، نشأ في مجال تصرف الولايات المتحدة تجاه اقرب حلفائها، أي دول الاتحاد الأوروبي، فبدلاً من أن تكون تفاهمات حلف شمال الأطلسي (الناتو) هي حالياً ما يحدد العلاقة بين دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فإن ضجيج الحروب التجارية هو الأعلى، في رفع مجال الضرائب الجمركية على كل ما تستورده الولايات المتحدة الأمريكية من أوروبا، خاصة في مجال السيارات، حتى إن الاتحاد الأوروبي ذهب في حربه التجارية مع واشنطن إلى حدود توقيع اتفاق للتجارة الدولية مع اليابان، في آسيا، لفرضه ثم إعلانه صراحة، وهو مقاومة الحرب الحمائية الاقتصادية التي أعلنتها واشنطن، في وجه دول الاتحاد الأوروبي.

إن تطوراً بهذه السرعة، وهذا الاندفاع، وبكل تجلياته الاقتصادية الصاخبة يمكن بكل سهولة تسميته بأنه بوادر ومظاهر حرب عالمية في التجارة الدولية، تنتشر حتى تغطي الكرة الأرضية بكاملها.

عن «الخليج»