د. دلال عريقات - النجاح الإخباري - النكروبوليتيكس Necropolitics هي سياسة استعمال القوة السياسية والاجتماعية للسيطرة على حياة الأفراد حيث أن هذه السياسة تسيء استعمال القوة لتقرر بين من يستحق الحياة ومن لا يَستحق! تتحكم جهة بقرار إمداد الفرد بالحاجات الأساسية للحياة وحصول غيره على الحاجات الثانويّة، فتستعمل نفوذها وسيطرتها لتقرر من يستحق الحياة وتُعجل الموت لغيره. نرى أن إسرائيل تُمارس هذه السياسة من خلال نظام الفصل العنصري الذي تطبقه ضد الشعب الفلسطيني.

سيحاول مقال الْيَوْم إثبات فرضية تطبيق سياسة النكروبوليتيكس من قبل اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني بتفاوت نسبي يختلف حسب التوزيع الجغرافي أو الاجتماعي. لفهم هذه السياسة سنتطرق لهرم ماسلو (أبراهام ماسلو) الذي يتناول الإحتياجات الإنسانية، لقد قدم لنا ماسلو نظرية من خلال هرمه تناقش الاحتياجات الأساسية لأي إنسان، وبين ماسلو كيف أن كل إنسان يشعر باحتياج لأشياء معينة بشكل يؤثر في حياته وسلوكه، وكيف أن وجود حاجات غير مشبعة يسبب توتراً لدى الفرد مما يؤدي إلى مشاكل نفسية، تدفعه للدفاع عن نفسه بشتى الطرق محاولاً أن يحمي نفسه من هذا التوتر، ورتب ماسلو الإحتياجات كما يلي: ١- الفيسيولوجية ٢- الحاجة للأمان ٣- الحاجات الإجتماعية ٤- الحاجة للتقدير ٥- تحقيق الذات.

في قاعدة الهرم، أي في المرحلة الأولى، يضع ماسلو الاحتياجات الفيسيولوجية لضمان استمرار بقاء الجسد من خلال توفير الحاجات الأساسية للبقاء مثل الهواء، الطعام، الماء، النوم، الجنس، ثم قدم لنا ماسلو الحاجة للأمان، وهذا يشمل السلامة الجسديّة والأمان الوظيفي، بعدها انتقل للحاجات الإجتماعية وهنا نتحدث عن العلاقات الأسرية، الصداقة، المشاعر والعواطف، ثم طرح الحاجة للتقدير وهنا نقصد الاحترام والثقة، وأخيراً وصل ماسلو لأعلى الهرم في الاحتياجات من خلال ما اسماه بتحقيق الذات وهذا يأتي من خلال الابتكار، الأخلاق، حل المشكلات والتحرر من الصور النمطية والإبداع.

عند إسقاط هذه الحاجات على واقعنا، لا تغيب عن ذهني كلمات أم الشهيد محمد أيوب في وداع ابنها في الجمعة الرابعة في غزة قبل يومين، حيث قالت له ستجد الطعام عند ربك!! لقد حرم الحصار الاسرائيلي ابن الثانية عشر ربيعاً من حاجة أساسية للبقاء، الحقيقة أن هذا الحرمان أتى نتيجة الحصار والتضييق على مواطني غزة وعدم توفر الفرص وبالتالي عدم قدرة الأهل لتوفير حاجات أساسية لأبنائهم. عدم إشباع هذه الحاجات الأساسية أدى الى التوتر والاحباط ونتج عنه استراتيجية دفاعية لا تهاب الموت أمام ندرة الموارد وسوء أحوال المعيشة. وإذا نظرنا حولنا نجد أن اسرائيل تصادر الموارد والمياه والأراضي وتهدم البيوت وبالتالي تحرم المواطن الفلسطيني من الحاجات الفيسيولوجية، أما على مستوى الحاجة للأمان، فتقوم قوات الاحتلال باقتحام المدن والمخيمات وتعتقل الأطفال والشباب والأمهات وتقيم الحواجز والأبراج فتحرم المواطن من أبسط حاجاته للشعور بالأمان، وبنشر الحواجز وعزل المدن وفصل الانسان عن أراضيه وقطع التواصل الجغرافي تعمل اسرائيل على حرمان المواطن من العلاقات الاجتماعية الطبيعية وأكبر مثال أن الفلسطيني الذي يحمل الهوية الزرقاء سيفكر عدة مرات قبل الارتباط بمن يحب إن كانت من حملة الهوية الخضراء مثلاً وذلك بسبب المعيقات والتهديدات واختلاف إجراءات الأوراق بسياسة ممنهجة من الاسرائيليين للتدخل بحياة الانسان الفلسطيني وعدم إشباع حاجته الإجتماعية. أما بالنسبة لحاجة التقدير أو تحقيق الذات التي تقودنا لمرحلة الحضارة، فهذه صعبة المنال مع تكاثف أدوات السيطرة والهيمنة الإسرائيلية للتحكم في حاجات الانسان الفلسطيني مما يؤدي من جهة أخرى لمقاومة تلك الهيمنة بكل الطرق المتاحة وهذا يفسر ما يحدث في قطاع غزة.

لا بد لي مِن لفت الانتباه لخطورة السياسة الاسرائيلية في سيطرتها على توزيع هذه الحاجات على الشعب الفلسطيني وصولاً لمرحلة النكروبوليتيكس؛ لقد نجحت اسرائيل بتفريقنا من خلال إشغالنا في السعي وراء حاجاتنا، فباتت فئة كبيرة من الشعب تبحث عّن حاجاتها الأساسية التي أصبحت مطالب بدلاً من أن تكون حقوقاً واجب توفيرها، وفئة أخرى من الشعب تجري وراء حاجات لتحقيق الذات وما هو فوق الإشباع، وهنا حققت اسرائيل سيطرة مكانية/اجتماعية/سياسية من خلال تحديد حاجاتنا وتوزيعها طبقياً (مادياً واجتماعياً) ومناطقياً (جغرافياً). الواقع الْيَوْم أن اسرائيل نجحت بتقسيمنا إلى من لا يحصل على تصريح لعبور الحاجز للوصول إلى المشفى للعلاج الطارىء وبنفس الوقت هناك من يملك تصريحاً دائماً للعبور بسيارته الخاصة والسفر من خلال المطار، لا شك أن اختيار الأسماء والأشخاص من قبل اسرائيل لا يأتِ صدفة. ما تمارسه اسرائيل من فرض للاستيطان والمصادرة والتهويد والتضييق على الشعب وحرمانه من أساسيات الحياة ومنع الأطفال من الوصول إلى المستشفيات وحرمان الشباب مِن الدراسة والتعليم والإبداع هو ليس مجرد تفاصيل احتلال؛ نخشى أن كل هذه السياسات هي عبارة عّن آليات تعكس سياسة اسرائيل باستغلال القوة للوصول إلى مرحلة "النكروبوليتيكس" أي قدرة الطرف المسيطر والمهيمن على التحكم في الحياة والموت للطرف الواقع تحت سيطرته، اسرائيل تستهدف حاجات الفرد وتعمل على هدم الإنسان بحرمانه من أبسط الحاجات وهنا علينا التنبه لأن اسرائيل فعلاً بدأت تقرر من يستحق الحياة.