منال الزعبي - النجاح الإخباري - في مخيم جنين، حيث الحجارة تنطق بالشهادة، وتحتفظ الجدران المهدّمة بأسماء من رحلوا، تقف أم عمار حنون بين الركام، تبحث عن بقايا بيتها كما بحثت قبلها عن ملامح أبنائها الذين غيّبهم الاحتلال. هي أم الشهيدين ياسر وعمار، اللذين قدّما أرواحهما فداءً للوطن، ولم تكتف آلة القتل الإسرائيلية بانتزاعهما من حضنها، بل أصرّت على تركها بلا مأوى، مشردة بين بيوت بناتها.

المأساة تتجدد بعد عشرين عامًا من الفقد
في السابع من تموز/ يوليو 2006، ارتقى ابنها عمار حنون شهيدًا، كان شابًا في مقتبل العمر (16) عامًا، حمل روحه على كفّه كما فعل الآلاف من أبناء المخيم. حينها، احتضنت أم عمار صورته، وجمعت بقاياه في قلبها، الذي كتمت أنينه تحاول أن تصبّر نفسها، ولم تدرِ أن القدر يخبئ لها فاجعة أخرى بعد عشرين عامًا.

في الثاني والعشرين من شباط/ فبراير 2024، كانت على موعد مع الوجع مجددًا، عندما اغتالت طائرات الاحتلال ابنها الآخر ياسر، مستهدفةً سيارته في المخيم، لينضم إلى شقيقه في مقبرة الشهداء.
أصبحت أم عمار بلا سند، بعد أن ودّعت ابنيها، وبقيت لها ثلاث بنات متزوجات، يقطنّ في أماكن متباعدة تفرّق شمل أم عمار بين مسافاتها، وهي التي كانت تجد في بيتها الصغير في المخيم بعض السلوى، لكنه لم يسلم هو الآخر من جرافات الاحتلال التي التهمت كل شيء. لم يبقَ لها حتى جدران تحضن ذكرياتها، ولا سرير تلقي عليه تعب السنين.فيما تواصل عملها في الهلال الأحمر محاولةً ملء الفراغ القاتل.

صرخة أم عمار: "روحي راحت يما"
أمام ركام منزلها، عادت مشاهد الألم كاملة إلى وجه أم عمار التي قالت بصوت خنقه الألم: "بدي أنهز ع بيت؟ أخذوا أولادي مني، قتلوا ياسر مثلما وقتلوا عمار يمّا، روحي من الدنيا راحت يما.. حرقوا قلبي يما.. وين تركني وراح؟". كانت تنظر إلى بقايا ذكرياتها، إلى المكان الذي كان شاهدًا على طفولة أبنائها، إلى زوايا البيت التي حملت ضحكاتهم وأحزانهم، لكنها اليوم تواجه الصمت والخراب.

في يدها كانت تحمل فردة حذاء ابنها الشهيد ياسر، أما الأخرى، فقد احترقت والتصقت بجسده بفعل القصف. هذا الحذاء بات شاهدًا آخر على الجريمة، كما كانت شواهد القبور والمنازل المهدمة والدموع التي لم تجف.
مخيم جنين: جريمة تدمير وتهجير ممنهج
الاحتلال لم يكتفِ باغتيال الأحياء، بل امتدت يده لتطال الحجر والشجر. مساعد محافظ جنين، منصور السعدي، وصف ما يحدث بقوله: "الاحتلال دمر المخيم بالكامل، وهجّر أكثر من 20 ألف مواطن قسرًا". فيما تشير تقديرات بلدية جنين إلى تدمير قرابة 100 منزل بالكامل، وحرق وهدم مئات المنازل جزئيًا، ناهيك عن البنية التحتية التي تحولت إلى أنقاض.
الصور القادمة من المخيم ترسم مشهدًا يفوق الوصف: منازل مهدمة، شوارع غارقة في الركام، عائلات تبحث عن مأوى، وعيون تترقب العودة إلى أماكن باتت مجرد أطلال. أم عمار ليست وحدها في هذا المصاب، لكنها تجسد معاناة الآلاف الذين شُرّدوا بفعل هذه الجريمة المستمرة.
الاحتلال يواصل التدمير.. وجنين تصمد
ما جرى في منزل أم عمار لم يكن استثناءً، بل هو جزء من سياسة ممنهجة تستهدف جنين ومخيمها. الجيش الإسرائيلي يواصل عملياته العسكرية في شمال الضفة الغربية، متمددًا إلى مخيمات نور شمس وطولكرم، وسط موجة نزوح جماعية تقدر بالآلاف. في ظل هذا الواقع، يواصل الفلسطينيون صمودهم، متمسكين بحقهم في البقاء، مؤمنين بأن الركام قد يتحول يومًا إلى جسر للحرية.
أم عمار، تلك السيدة التي أرهقها الفقد والتهجير، ليست وحدها. معها كل أمهات الشهداء، كل من فقدوا بيوتهم وأحبابهم، ومعها جنين التي رغم الجراح، لا تزال تنبض بالمقاومة.


