وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - يعيش الفلسطينيون في ظل نظام سياسي اسمه منظمة التحرير الفلسطينية، وهذه المنظمة تمثلهم سياسيا، وتقود نضالهم السياسي والوطني منذ نشأتها، دون أن تكون لها سيادة على الأرض، أو حكم مباشر على الشعب، ولكنها بعد أوسلو، صارت تحكم جزءا من الشعب في المناطق التي تخضع لسيادتها باسم السلطة الوطنية.
وقد اكتسبت المنظمة شرعية وجودها، وشرعية قيادتها للشعب، وشرعية تمثيله من خلال ما تسمى الشرعية الثورية، والتي انتزعتها من خلال ممارستها الفعلية للكفاح الوطني بكافة أشكاله، ولأنها كانت تتطابق مع تطلعات الشعب وأهدافه في التحرير ونيل الحرية، والانعتاق من الاحتلال، وكانت تمثل الحركة الوطنية الفلسطينية بكافة أطيافها.
ولم تؤثر قوى المعارضة الجذرية للمنظمة على شرعيتها الوطنية، وشرعية تمثيلها للشعب (أي القوى الرافضة لها، والتي لم تعترف بها)، فأي نظام سياسي في العالم لا بد من وجود قوى مناوئة له، أو مشككة بشرعيته، ومن المتعذر أن يحظى أي نظام بإجماع كامل من قبل الشعب.
وبعد قيام السلطة الوطنية، صار النظام السياسي الفلسطيني قائماً على كيانين، يتمايزان هيكلياً، إنما مع بعض التداخل القائم، خاصة على مستوى رأس الهرم، هما منظمة التحرير، والسلطة الوطنية، وبعد قيام السلطة الوطنية، لم تعد الشرعية الثورية مصدراً وحيداً لشرعية القيادة والحكم، فقد تعززت هذه الشرعية من خلال انتخابات عامة جرت في 1996، وفاز فيها الرئيس الراحل ياسر عرفات، وأفرزت أيضاً مجلساً تشريعياً أغلبيته من فتح. ثم تلتها انتخابات رئاسية ثانية جرت في 2005، وفاز فيها الرئيس محمود عباس، وانتخابات تشريعية جرت في 2006. فازت فيها كتلة حماس بالأغلبية، التي مكنتها من تشكيل حكومة. ثم في العام التالي حصل الانقسام. ومن بعدها دخل النظام السياسي في أزمة الشرعية، والتي ما زلنا نعاني منها حتى اليوم.
منذ تأسيسها وحتى العام 2003، ظلت السلطة الوطنية قائمة على النظام الرئاسي، ونتيجة ضغوط سياسية خارجية، تم استحداث منصب رئيس الوزراء، والذي أسند حينها للرئيس محمود عباس، ليتحول إلى نظام مختلط «شبه رئاسي»، وفي العام 2006 بعد الانتخابات التي فازت فيها كتلة حماس بالأغلبية تم تشكيل الحكومة العاشرة برئاسة إسماعيل هنية، ليتشكل نظام سياسي برأسين، ببرنامجين مختلفين، أحدهما في رئاسة السلطة والآخر في رئاسة الوزراء.
كان لفوز حماس في الانتخابات وتشكيلها حكومة «حمساوية» تأثيرات سلبية في واقع حياة الشعب الفلسطيني، فقد فُرض حصار مالي وسياسي خانق على السلطة الوطنية في الضفة والقطاع على حد سواء، ثم تفاقمت الخلافات الداخلية بين الأشقاء حتى وصلت مرحلة الاقتتال الداخلي وسفك الدم الفلسطيني بأيدٍ فلسطينية، حتى وصل الخلاف ذروته بانقلاب حماس على السلطة الشرعية وانفصال غزة عن الضفة في حزيران 2007.
وهكذا، بعد أن كان النظام السياسي الفلسطيني يعاني من أزمة وجود سلطة برأسين (الرئاسة والحكومة)، بعد الانقلاب الحمساوي (أو الحسم العسكري كما سمته) أصبح النظام يعاني من أزمة الانقسام ووجود سلطتين.
في تلك المرحلة ادعى كل طرف أنه يمثل الشرعية الفلسطينية؛ حكومة حماس قالت إنها جاءت بقوة الانتخابات، أي أنها صارت تستمد شرعيتها من صندوق الانتخابات، وبالتالي فإن المجلس التشريعي (الذي تسيطر عليه حماس) هو الشرعية، بينما قالت السلطة في الضفة إنها تمثل الشرعية، لأن النظام السياسي والقانون الأساسي يعطيان الصلاحيات الكاملة للرئاسة، ولأن السلطة تستمد شرعيتها القانونية من منظمة التحرير، وشرعيتها الرسمية من اعتراف العالم بها. مضيفة إن الانتخابات وحدها لا تعطي تفويضاً مطلقاً وأبدياً لمن فاز فيها.
وحسب القانون العام، فإن مدة صلاحية المجلس التشريعي أربع سنوات، وكذلك مدة الرئاسة.. هذا الأمر أوجد أزمة جديدة بعد انقضاء السنوات الأربع، فبمجرد انتهاء مدة ولاية الرئيس (كانون الثاني 2009) صار الخطاب الحمساوي يركز على أن الرئيس انتهت ولايته، وبالتالي فقد الشرعية.. ولكن، بعد سنة انتهت ولاية المجلس التشريعي أيضاً، وبالتالي وبنفس المنطق والحجة القانونية لم يعد المجلس شرعياً، ولكن نواب حماس قالوا إن المجلس يظل شرعياً حتى تنظم انتخابات تشريعية ثانية تأتي بمجلس جديد.. والمشكلة أنه لم تجر من بعدها أي انتخابات رئاسية، أو تشريعية.
وبعد فشل كل محاولات إنهاء الانقسام تكون أزمة الشرعية في النظام السياسي الفلسطيني قد وصلت حداً خطيراً.
والأزمة لا تتجلى فقط في تكريس واقع الانقسام، بل أيضاً في ​التراجع الخطير والمتواصل للديمقراطية الداخلية، والمس بالحريات العامة، والحق في حرية الرأي، وعودة ظواهر الاعتقال السياسي، والاعتداء على المتظاهرين. والفشل في بلورة آلية للشراكة الديمقراطية كضرورة أساسية للتعددية السياسية في الساحة الفلسطينية، إضافة إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية للفئات الفقيرة ومحدودة الدخل، والغضب الشعبي على غياب العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، وسيادة القانون، وانتشار مظاهر المحسوبية والواسطة..الخ. وهذه أزمة عميقة، لم يعد ممكنا إنكارها أو التستر عليها.
غير أنه ما كان لأزمة الشرعية وأزمات السلطة أن تستفحل إلى هذا الحد لو لم تقابلها أزمة في شرعية القوى المعارضة لها، فأزمة حماس ربما أعمق وأخطر، خاصة بعد نحو 15 سنة من حكمها المنفرد للقطاع، وما آلت إليه الأمور من تدهور للأوضاع الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، وبسبب الحصار، وإغلاق المعابر الحدودية، وتفاقم الفقر والبطالة، فضلاً عن أربع حروب عدوانية شنها جيش الاحتلال على القطاع، وتسببت بخسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات.. إلى جانب أزمة حماس المتمثلة في عجزها عن المواءمة بين شعارات المقاومة (مبرر وجودها كحركة مقاومة)، وبين ضرورات ومتطلبات البناء والحياة اليومية للمواطنين (مبرر حكمها للقطاع)، وعدم اعتراف العالم بشرعية حكمها، وما تتعرض له من عقوبات، وتجفيف لمواردها المالية، وخسارة حلفائها في الإقليم واحدا تلو الآخر، ما أجبرها على قبول المنحة القطرية عبر إسرائيل مباشرة، وبموافقة أجهزتها الأمنية، ما وضعها في موقف حرج ودقيق.
وبعد أن مثلت الانتخابات مخرجاً ممتازاً للخروج من الأزمة، أو حلحلتها على الأقل، جاء قرار تأجيلها، أو إلغائها ليزيد من عمق الأزمة، ومن خطورتها. ما يؤكد مرة أخرى على دور إسرائيل المحوري في إيجاد وتعميق الأزمة الفلسطينية.
----------
من دراسة مطولة نشرت في مجلتيّ: «المواطنة»، و»أوراق فلسطينية».