وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - تاريخياً، لم يُعـرَّف اليهود كعـِرق، ولا كشـعب، ولا كقومية، وقد عاشوا كجماعات يهودية متفرقة في البلدان التي سكنوها، يتكلّـمون لغـة البلد نفسـها. وظل الأمر كذلك حتى القـرن التاسـع عشـر، عندئـذ وقـع الشـرخ الـذي لم يكـفَّ عـن الاتساع مـع الزمـن. وقـع أولاً بـين الهوية اليهوديـة والديانة اليهوديـة، ثم بين اليهود أنفسهم.. والصحيـح، أن حفنـة فقـط مـن اليهـود المندمجين في أوروبا الوسـطى هـم الذيـن اخترعوا القوميـة اليهوديـة في النصـف الثاني مـن القـرن التاسـع عشـر، وبالتالي فإن الصهيونية التي زعمت أنها أتت لتمثيل اليهود، وحل مشكلتهم، هي في الواقع مزقتهم فرقاً وشِيعاً وطوائف (رابكن).
ومنذ البداية لم تفلح الصهيونية في تحديد شكل واضح ومحدد لهويتها، فظلت تتأرجح بين الديني والقومي والعلماني، لذلك مع ولادتها وُلدت أزماتُها العميقة؛ فاليهود أنفسهم أول من رفضها، وقد ظل التيار اليهودي الأرثوذوكسي معارضاً للصهيونية، حتى اليوم، وبدرجات وصور متباينة.
وبعد قيام إسرائيل تفاقمت تلك الأزمة، فمن تجليّاتها مثلاً، ما نراه من تصدُّع ديني داخل المجتمع اليهودي نفسه، ليس فقط ما يتعلق بدرجة التدين، بل وأيضا في تعريف اليهودي واليهودية، ومن يقرر بذلك؛ فبسبب التفاوت الكبير في درجة التدين وشكله بين اليهود الشرقيين (السفارديم) والغربيين (الأشكناز)، تعزز التصدع الإثني بين الطائفتين، حتى أن تعريف الهوية الأشكنازية والسيفاردية صار على أساس مذهبي. إلى جانب التصدعات بين المتدينين الصهاينة والمتدينين غير الصهاينة، وبين اليهود الروس والفلاشا وغيرها من الجماعات ذات الخلفيات المتباينة.
ويمتد هذا التصدع، وبصورة أعمق بين الحريديم والعلمانيين، علماً بأنه ليس هناك فصل واضح بين الدين والدولة في إسرائيل، فكثير من مظاهر ورموز الدولة هي ذات مصدر ديني.
إلى جانب التناقضات بين المهاجرين اليهود من أصول مختلفة، والتوترات والتصدعات الطبقية الناشئة ما بين الشرائح السكانية، ذات الصلة بالتطورات الديمغرافية والتغيرات الاقتصادية والفجوات الاجتماعية. وأيضا التناقضات السياسية الأيديولوجية بين تيار حزب العمل ومن يدور في فلكه، وبين اليمين الإسرائيلي الذي يسعى للسيطرة الكاملة على الدولة، فضلاً عن الصراع القومي الأهم بين اليهود وسكان البلاد الأصليين، وهذا النوع من الصراع يخلق إشكالية كبيرة في تعريف «الإسرائيلي»، و»الأمة الإسرائيلية»، وتحديد حقوق المواطنة.
هذا كلُّه أدى إلى المظهر الثاني من الأزمة: عجز إسرائيل عن تعريف نفسها على نحو يخلو من التناقض، فهي تريد قسراً، وخلافاً لقانون الطبيعة أن تجمع بين المتناقضات؛ أي بتعريف نفسها دولة يهودية/ قومية/ علمانية/ ديمقراطية!
وهذا يعود لأن الصهيونية سعت بدايةً للدمج بين الجوهر الديني، والدعوة ذات المنزع القومي، والمظهر العلماني وصهرها معاً في إطار دولة، وخلق أُمة؛ وهذا يتنافى مع تعريف الأُمة.
وهذه الأزمة نابعة أساساً من كون إسرائيل لم تتشكل بناء على تطور اجتماعي طبيعي، بل تشكلت من مجتمع هجين متعدد الأعراق والثقافات، تم تأسيسها في إطار مشروع إمبريالي عالمي، أَسند إليها دوراً وظيفياً محدداً، وهذا الدور أفرغها إلى حد كبير من محتواها الإنساني.
اليوم، تتعمق الأزمة الصهيونية بصورة أخرى، فهي تتلقى النقد من الأرثوذوكسية اليهودية غير المتصهينة، التي لا ترى في الصهيونية، ولا في إسرائيل أي شكل من الخلاص، بل تراهما عائقين أمام الخلاص الحقيقي، المتمثل بعودة المسيا. وكذلك النقد من اليمين الديني الصهيوني، المؤمن بفكرة الخلاص، الذي بات يتساءل عن أي خلاص تسعى إليه الصهيونية، بعد أن قامت دولة إسرائيل، وصارت متاحة ليهود العالم ليأتوا إليها!
وقد تزايد النقد لمشروعية الصهيونية، ومبررات استمرارها باعتبار أن الصهيونية قد حققت هدفها الرئيس، وهو إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وبهذا تكون قد أدركت غايتها ووصلت إلى نهايتها، ولم يعد مبرراً ادعاؤها بإنقاذ يهود العالم، فالجماعات اليهودية في مختلف الدول لا تتعرض الآن لأي نوع من الاضطهاد، كما أنها فشلت في تجميع وتمثيل يهود العالم، وبالتالي حان الوقت للنظر والتفكير فيما بعد الصهيونية.
ومن جهة ثانية، تتعرض الصهيونية لنقد التيار اليساري (رغم ضعفه وخفوت صوته) الذي يرفض ممارسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، ويرى أنها تسيء لصورة إسرائيل «الديمقراطية». فما يخشاه «اليسار الإسرائيلي» العلماني، هو تغوُّل اليمين الديني، وتحول إسرائيل إلى دولة شرقية، مثل محيطها، أي دولة تعيش على الهوية الدينية والأساطير التاريخية وجبروت القوة وهوس الأمن، خارج نسق الحداثة والعولمة والتاريخ الجديد، وبشكل يعادي القانون الدولي، وحقوق الإنسان، ويتناقض مع عولمة القيم، وإنسانية العصر.
وهذا ما حذر منه «شاحر إيلان» بقوله: «من الناحيتين الاقتصادية والأمنية، يتحمل المجتمع الإسرائيلي على كاهله عبء الحريديم. كان هذا صعباً في الثمانينيات.. لكن لم يعد محتملاً الآن.. من شأن هذا الواقع أن يهدم المجتمع والاقتصاد الإسرائيليين بعد عشرين سنة، ويحوّل إسرائيل إلى دولة عالَم ثالث.. وأن يُفضي إلى تقسيم الدولة، أو إلى حرب أهلية. حدث هذا لدى آخرين، وقد يحدث عندنا.. الحل لا أن يكفَّ الحريديم عن أن يكونوا متدينين متزمتين.. بل أن يبدؤوا العمل والخدمة في الجيش، وأن يندمجوا في المجتمع العام». وطبعاً هذا لن يحدث أبداً، وسيظل المتدينون والمستوطنون عبئاً على المجتمع والدولة.
ومع الإقرار بمحدودية تأثير هذا التيار، واقتصاره على النخب، إلا أن واقع الأمر يحتم تعمُّق الأزمة على مديات أوسع، خاصة في ظل تعثر التسوية وانسداد الأفق السياسي، وهذا سيقود إلى جدل أوسع عن احتمالات تطور الصراع، وإمكانية قيام دولة واحدة بعد ضم إسرائيل للضفة الغربية. هذا الخيار سيؤدي بالضرورة إلى عواقب مختلفة، أهمها فقدان الدولة طبيعتها اليهودية، وتحولها إلى دولة ثنائية «القومية»، وانتهاء مشروع الدولة اليهودية التي تشكل حجر الزاوية في الفكر الصهيوني.
هذا ما لن يقبل به المجتمع الصهيوني، ولا القوى السياسية الممثلة في المؤسسة الحاكمة. الخيار هنا تحول إسرائيل إلى «جنوب أفريقيا» ثانية، أي دولة عنصرية «أبارتهايد»، دون أن نغفل حقيقة أن الكيان الصهيوني في جوهره عنصري لأنه قائم على «دولة لليهود/ دولة يهودية».
الخيار الآخر المتوقَّع، والمستبعَد في الوقت نفسه، هو تحول اليهود إلى أقلية، انطلاقاً من حقيقة فشل مشروع «الأسرلة» والتهويد الذي حاولت إسرائيل فرضه على الفلسطينيين منذ سبعة عقود.