وكالات - حسن البطل - النجاح الإخباري - .. ونقيس الآجال بالعناصر: «في نوّار الملح». وبالثمرات: «بالمشمش».. وبالحبوب: «من عمر القمح»!
.. ويركض موسم الفريكة نزقاً مثل قفزات عصفور «هزّاز الذيل».
أسبوعان في حقول الغور. أسبوعان في حقول طمّون.. وأسبوعان ختاميّان في حقول جنين.
ركضنا إلى طمّون، وبين: الفارعة، طوباس المجيدة، الزبابدة الجميلة.. وهذه الجلقموس التي ستباهي بجيرتها لـ «الجامعة العربية - الأميركية»، ولشجيرات «البلان» أن تذود عن الوجود.
حقول في صفرة الموت تجاور حقولاً تزهو بخضرة الحياة. سنبلات الأولى فارغة؛ والثانية كالحامل في شهرها الثالث. لا فائدة من «المعك» و»الفرك». نصف خيبة - نصف بشارة في حقول القمح، الطريق المعبّد.. ونور الكهرباء.
قمح البعل مثل لعبة حظ. هذه السنة، كدّت البغال في الحراثة تحت سياط فلّاحين دخلوا سباق الوقت القاطع.
السماد البلدي لعبة حظ ثانية. إذا شحّ مطر آذار ونيسان حرق الزبل قمح السنابل، فانقلبت بواكير موسم مبشّر إلى خواتيم موسم مُكفَهِرّ. صار البذار سنابل. لم تصبح السنابل توائم. من زبّل حصد تبناً، ومن لم يزبّل حصد قمحاً.
علي خسر نصف رهان مع «بعل»، وربح رهانه مع الزبل. وفّر على جيبه مائتي دينار سماداً بلديّاً.. وسيملأ نصف أكياسه قمحاً.العام قبل الفائت ملؤوا 500 - 600 كيس. العام الفائت كلّ الأكياس فارغة. وهذا العام نص - نص.
وذهبنا إلى طمّون لأنّ مصطفى سيصير عريساً بعد حصاد القمح، ولأنّ أكُفَّنا اشتهت فرك السنابل، واللسان اشتهى قمحاً أكثر خضرة وطراوة من «مؤونة فريكة» الدكاكين.
.. وذهبنا شوقاً إلى الحقول من مألوف شجر الزيتون، أو هو حنين الكهولة إلى طفولة في حقول سورية الشاسعة.
كنّا أولاداً، ونميّز «البلدي» عن «الحوراني».. عن «الأميركي»، «الأسترالي».
صرنا كهولاً.. والهندسة الوراثية تركض بجينات القمح إلى أسرع.. والعمر يتجرجر في مفاصل الكهول.
حظّ الطمامنة نصف عاثر: من زبّل تبّن. من لم يزبّل قمّح. وحظّنا عاثر: القمح الأصفر لون موت السنابل من الزبل.. والقمح الأخضر لم تُحكم سنيبلاته.. وهكذا، اكتشفنا «الأصيبعة» في حقول الكمّون.. فأهدتنا إلى مغصٍ خفيف!

***
مولانا «ابن أبي أصيبعة» من فطاحل أطبّاء القرن الرابع عشر، ومصنّفه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» يبقى شيّقاً.
سار طبيبنا القديم في جنازة رجل. انزاح كفنه عن قدميه. صاح بالقوم: أنزلوه. فرك جسده وجعله يتنشّق عطوراً منعشة. دبّت الحياة في أوصاله. سأله النّاس: حيّاك اللّه، فكيف علمت أنّ في الميتِ رمق حياة؟
قال: لأنّ راحتي قدميه تتعامدان مع ساقيه.. وحال قدميّ الميّت تكونان خلاف هذا.
مغص «الأصيبعة» لا يُميت، وطريق الأسفلت من مفرق طوباس إلى طمّون كان حلم الطمامنة.
المتعهّد الطمّاع أقنعهم أن خمسة أمتار تفي حاجتهم بدلاً من ستّة. الغشّاش أطعم الطريق «حصمة» حتى التُّخْمَة.. وسقاها قليلاً من الأسفلت.
ألمانيا المانحة تُمانع في الدّفع، واللّه أعلم كيف ستكون «العطوة»، ما دام المتعهّد الفلسطيني بضمير أبيض إذا تعهّد طريقاً التفافيّاً لليهود، وبضمير «زفت» إذا تعهّد حلماً من أحلام الطمامنة!
عزاء الطمامنة بالقمح والطريق، أنّهم يَعُدُّون ساعات الظّلامَ على أصابع يدٍ واحدة خلال يومهم. ويقولون: الفَرَجُ قريب.. بهمّة «بكدار» وتطوير كهرباء منطقة طوباس.
يحصرون غلّة الحقول بعدد أكياس القمح، وأفراح الأعراس بنحر الرؤوس.. ويبنون بسخاء مفرط في أكياس الإسمنت، وحيث تكفي «سنسلة» حجر يصبّون جداراً إسمنتيّاً. إسراف آخر في الحديد: باب الدّار. باب الغرفة.. ونافذة الطبقة الثالثة.
طمّون عصت عسكر إسرائيل وتحبّ لذلك باب الحديد وجدار الإسمنت.. وتحبّ الاستقلال المبكّر، فأعلنت نفسها «دولة طمّون المستقلّة» أيّام الانتفاضة الأولى.. لولا صهاريج المياه!
يبقى «بعل» مزاجيّاً في الحقول. في الفارعة ماء نبع. طوباس أحسن.. والزبابدة أحسن، فإلى جلقموس لنرى، في الطريق إليها، صورة عن خضرة حقول اللطرون. هندسية. متعوب عليها.. مدرارة العطاء.
صاحبي خالد يسأل: أين جَرَتْ معركة طوباس 68، فقريبه سقط فيها، وذات يوم «مرقنا» من «فصايل» شمال العوجا حيث قريبي سقط هناك. «البلان» لا يدري، و»النتش» لا يقول.
هل المغص من «الأصيبعة» أو مغص من تخمة أحلامنا. هنا ماتوا.. والحقول هي الحقول.

حـسـن الـبـطـل
11-5-2000