عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - لم تندلع حرب كونية ولم يهبّ أحد متبرعاً لدخول الحرب، وظل الجميع يترقب المزيد المزيد من التوتر. أيضاً عادت الحرب الباردة إلى الواجهة وإن كانت احترقت نتيجة توتراتها أوكرانيا، وأيضاً العالم بدأ يأخذ شكلاً جديداً، وبدأت التحولات في العلاقات الدولية تظهر جلية، وسيكون لها أثر أكثر وضوحاً كلما تقدمت الدبابات الروسية في الأراضي الأوكرانية. المؤكد أن العالم لم يعد ذات العالم، كما أن علاقات الدول لن تظل كما كانت، كما أن للحرب ما قبلها وما بعدها. ولكن أيضاً فإن أوكرانيا دفعت فاتورة رغبة واشنطن بالتمدد وبسط نفوذها على كامل القارة، ولم يكن التحرك الروسي إلا نتيجة واضحة لمحاولة بناء جدار برلين جديد.
وبشكل عام، فإن المخاوف من اندلاع حرب كونية لن تحدث، فقد ظلت حرباً روسية على أوكرانيا من أجل إعادة ضبط علاقات موسكو مع الحليف القديم كييف، أو من أجل إعادتها إلى حضن الدب الروسي. لم يحدث شيء. لم يتحرك الناتو من أجل إسعاف أوكرانيا، ولم تنطلق الطائرات من قواعده المنتشرة في الجوار من أجل خوض معارك شرسة في الأجواء ضد الطائرات الروسية. لم يحدث شيء. كما لم يتحرك الأسطول الأميركي من أجل أن يوقف العدوان الروسي، وظلت رقعة الشطرنج على حالها.. الكل يترقب الحل والكل ينتظر حركة الكل القادمة، ولكن ظل الجندي الروسي وحده من يتحرك وبحرية في حرب تحدد إيقاعها موسكو.
قلنا من البداية: إن الحرب العالمية لن تندلع؛ فالعالم لا يحتمل حرباً جديدة. فتكاليف الحرب السابقة كانت باهظة على الأنفس وعلى الاقتصاد، وعلى العمار والبنيان، وعلى نسيج المجتمعات الأوروبية. لا أحد يحب أن يدفع الفواتير دائماً، فالكل يريد أن يكسب دون أن يخسر شيئاً. وإذا كانت الحرب العالمية الثانية قد كلفت أوروبا عشرات ملايين الأرواح، فإن الحرب الجديدة بعد ثمانية عقود ستكلفها مئات آلاف الأرواح، وكمية الدمار التي قد تلحق بالقارة العجوز ستكون باهظة وغير محتملة. وعليه فأوروبا غير مستعدة للمجازفة مرة أخرى من أجل إسعاف جراح عابر سبيل، أو أمير تم اغتياله. الكل سيظل مشاهداً. واشنطن أيضاً تدرك أن هذه الحرب لن تكون مثل سابقاتها. لن يكون بمقدور الجندي الأميركي أن يقاتل على أراضي الغير، ولن يكون ثمة إنزال نورماندي آخر يتم فيه الانتصار على الأعداء. واشنطن تدرك أن هذه الحرب مختلفة، وأن تكاليفها ستكون باهظة عليها. فهي لن تكون بمنأي عن القصف وعن الصواريخ وعن التفجير، ولن تكون نيويورك مع الصواريخ العابرة للقارات أبعد من موسكو ولا من برلين. الكل سواسية في هذه الحرب. إنها الحرب التي يرغب في دخولها الجميع ولا يريدها أحد في نفس الوقت. وعليه فإن الحسبة الأكثر سلامة هي أن تترك كييف تقود مصيرها وحدها بأن تقوم بالقتال بالوكالة عن الجميع.
لكن السؤال: هل ستستمر الحرب إلى الأبد؟ أو بسؤال آخر: ما هي غايات تلك الحرب بعد مرور أسابيع ثلاثة على اندلاعها؟ هل يريد بوتين تدمير أوكرانيا كاملاً؟ هل يريد أن يواصل الحرب إلى ما لا نهاية؟ هل ثمة نقطة يمكن عندها أن تتوقف المدافع وتخمد الطائرات؟ يصعب الإجابة عن الأسئلة السابقة سواء إذا كان الأمر للتكهن أو لرسم سيناريوهات، ولكن سيكون من الأسهل معرفة دوافع موسكو الحقيقية من وراء هذه الحرب. وإذا عرفت هذه الدوافع، فإنه يسهل تخيل إلى أين ستنتهي هذه الحرب التي طال انتظار وقوعها. صحيح أن أحداً لم يتخيل مدى ضراوتها أو ما إذا كانت ستصل إلى هذا الحد، لكنها وصلت.
لن تستمر الحرب إلى الأبد، وقد تتوقف في أي لحظة، وقد نصحو صباحاً لنجد بياناً من الكرملين يعلن وقفها. قد يحدث هذا وقد يحدث قريباً، وقد يحدث بعد أسابيع. بوتين ليس في عجلة من أمره؛ فهو يعرف أن الغرب بات متيقناً أنه جاد في كل ما يفعله، وأنه مستعد للذهاب حتى النهاية في حال محاولة الغرب التدخل في الحرب. القصة ليست العض على الإصبع، القصة أن ثمة شخصاً بات يعرف حدود خصومه. أوروبا وأميركا لا تريدان أن تدخلا الحرب. نمدكم بالسلاح وبالطائرات وبكل شيء، لكن لن نرسل الجنود للقتال إلى جانبكم. بوتين يعرف ذلك وهو يقف على أرض صلبة في هذا الأمر.
ولكن إلى متى سيواصل قصف أوكرانيا؟ المؤكد أنه سيصل لنقطة يدرك فيها أنه يستطيع فرض شروطه على كييف، وإجبارها على الانصياع لتعليماته بشأن العلاقة مع الغرب ومع واشنطن. قد يرحل زيلنسكي وقد يظل، ولكن توجهات أوكرانيا ورغبتها أن تكون جزءاً من نادي بروكسل ومن الناتو سترحل بكل تأكيد. الثمن معروف. لا بأس من حرب جديدة ستندلع في أي ثانية يشعر فيها بوتين أن كييف قد تفكر، مجرد تفكير، في كسر قواعد اللعبة الجديدة التي سيضعها بعد انتهاء الحرب. ببساطة لا يهم كيف ستنتهي الحرب، وما نوع الاتفاقية التي سيوقعها الأوكرانيون، سواء اتفاقية هزيمة أو تفاهم أو أي شي، المهم أن بوتين سيحقق ما يريد في نهاية المطاف، وسيكون على الأطفال الأوكرانيين حين يكبرون تذكر تلك اللحظات المأساوية التي كان على أجدادهم فيها الإيمان والثقة بواشنطن.
هل ستستمر الحرب؟ لن تستمر كثيراً، لكنها ستظل تحافظ على جذوة اشتعالها. بوتين يؤمن بأنه لا يمكن الوثوق بعد ذلك بترك حلفائه السابقين وحيدين أمام تأثير واشنطن والغرب.