وكالات - عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - ثمة حقيقة وطنية واحدة ووحيدة هي أن هذه البلاد لأصحابها رغم كل الوقائع التي عمل الاحتلال عليها من أجل تزوير تلك الحقيقة ومحاولة تغييرها. ما وقع على الشعب الفلسطيني من ظلم ومحاولة اقتلاع من أرضه من أجل إحلال غرباء مكانه تم مدعوماً بماكنة سردية مهولة تم العمل عليها في قبل وقوع النكبة واستندت إلى مرويات مزعومة على قداسة غير مؤكدة.
لم يكن الأمر صدفة ولا يراد لها أن تتغير ما لم نناضل بشكل حقيقي من أجل أولاً تطور سردية تدعم هذه الحقيقة الوحيدة، سردية قائمة على التخلص من الاستلاب والهيمنة البحثية الغربية التي "استعبدت" الأكاديميا لعقود بمقولات تنفي سرديتنا وحكاية وجودنا، وتعمل بتفنن من أجل إرباك المسرودات التاريخية وإظهار سردية مزورة تخرج كل الوجود الفلسطيني من سياق التاريخ، وإن وجد في تلك السردية فهو بما يخدم فقط مصلحة السردية المرجوة.
طبعاً كتب الكثيرون وبعضهم اجتهد في التأليف في التاريخ، وهي جهود حميدة ولا بد أنها ساهمت في جعل البحث عن فلسطين القديمة وعن السردية الفلسطينية قائمة، لكن الحقيقة أن كل تلك الجهود بحاجة لمراجعة من أجل الإجابة عن السؤال الأساس: كيف نطور سردية تاريخية تخدم حقوقنا السياسية. المشكلة الحقيقية هي غياب هذا التوجه وليس تلك المحاولات. إن مراجعة سريعة لما يدرس في جامعاتنا تصيبنا بخيبة خاصة فيما يتعلق بالتاريخ وتحديداً التاريخ المتعلق بفلسطين القديمة.
يمكن لمن درس التاريخ أن يدرس مواد مختلفة حول الكثير من الأشياء والكثير من الحقب لكنه بالكاد يمر مرور الكرام على التاريخ الفلسطيني القديم.
الأمر مؤلم وهو لا يتعلق بما يفعله الآخرون بل ما نفعله نحن. لا يوجد تخصص في تاريخ فلسطين القديم في الجامعات ولا يوجد مختصون إلا ما رحم ربك.
الطالب الفلسطيني يدرس تاريخ حقب زمنية مختلفة ويتبحر فيها وربما تستأثر فترات التاريخ الأوروبي على مواده الدراسية (الإغريق، اليونان، عصر النهضة، عصر التنوير، الاستعمار، وغير ذلك)، وبالطبع يدرس تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر، ولكن السؤال المهم يتعلق بما يدرسه من وعن تاريخ فلسطين القديم أي تلك الحقبة من الزمن التي يدور عنها الصراع على الحكاية التي يريد الغزاة أن يحرفوها ويشوهوها خدمة لمشروعهم الاستعماري.
إن طاقة السردية الكولونيالية المدعوة بالسلاح وبالهيمنة نجحت بفرض نماذج تحليل نظرية سلبت البحث التاريخي عن المنطقة.
خلال مؤتمر نظمته وزارة الثقافة هدف إلى تسليط الضوء على واقع السردية الفلسطينية بحثاً عن تطوير سردية وطنية تمت الإشارة في أكثر من موضع إلى تحرير السرديات عن المنطقة وإطلاق سراحها من حالة الاستلاب والهيمنة تلك. الحاجة للتحرر المعرفي في هذا الجانب يبدو مهما لأن قرونا من تزوير التاريخ أنتجت حالة قاسية يصعب التحلل من قيودها.
إن الكتابة عن فلسطين القديمة أو تصوير فلسطين في القرنين السابقين بعدسات المصورين أو لوحات الفنانين كلها خدمت صورة فلسطين التي تنتظر عودة اليهود إليها. صور بائسة تم رسمها للمدن وللفلسطيني الفقير أو تم تغييب تفاصيل الحياة الغنية.  
لا توجد مدرسة تاريخية خاصة بنا كفلسطينيين، لأن الأكاديميا الفلسطينية لم تنشغل بذلك مع كامل التقدير لكل المساهمات التي حاولت تقديم مقاربات. ولكن أيضاً لأن جزءاً كبيراً ممن كتبوا تلك المساهمات كانوا مدفوعين وطنياً ومن باب الغيرة ولم يكونوا دارسين أكاديميين ولا اعتمدوا على قراءة النقوش بعيونهم أو حفروا واكتشفوا تلك النقوش والآثار، بالطبع بسبب الاحتلال وسياساته وسرقة آثارنا. وربما مراجعة ما كتب أو متابعة الأبحاث المنشورة في السياق تشير إلى ذلك، إلى وجود روايات مختلفة حول نفس الحدث وعدم توافق في التحليلات لذات الوثيقة أو الأثر.
طبعاً جزء أساس من ذلك أن المؤلفات عن التاريخ الفلسطيني القديم التي كتبت بالعربية استندت في كثير من مقولاتها إلى السردية المتأسسة على الوعي الاستعماري الذي تطور على البحث عن "توراتية" التاريخ وإثبات كل ما يخدم الرواية الصهيونية.
المهم أن يقود كل شيء إلى توطين ما يسمونه الشعب اليهودي في ممالك يتم تصويرها بالعظيمة والقوية ويتم تصوير حروب تم سحق الفلسطينيين فيها وهدم أسوارهم وما إلى ذلك. أيضاً القول إن أصول الفلسطينيين من الخارج أو نظرية شعوب البحار، وهي مقولات لم تستند إلى وقائع تاريخية أو دلائل أثرية بقدر ما أنها كتبت في لحظة تاريخية عكست موازين القوى أو أنها تم تطوير بعض تفاصيلها لاحقاً بما يتلاءم مع الغايات التوراتية.
لم يكن ثمة نظريات عربية خاصة حول تاريخ المنطقة. تم تطوير بعض المقولات واجتهد البعض في تطوير نظريات تأسست على أبحاث وإعادة قراءة لبعض اللقى الأثرية وإعادة تفسير للكثير من الأبحاث السابقة، لكن هذا لم يؤسس فعلاً لوجود سردية متكاملة. القصة ليست ما نعتقد ولا ما نحب، كما أن القصة ليست وجهة نظر، إذ إن عملية التأريخ أكبر من ذلك.
إن مهمة كتابة سردية وطنية مهمة تراكمية، لكنها بكل تأكيد بحاجة لجهد وطني لا يمكن إنجازه دفعة واحدة لأنه سيعني التدخل في المنهاج وفي التعليم الجامعي كما في المؤتمرات المتخصصة ودعم عمليات التنقيب وتسجيل الآثار والبحث عنها، وهي مهام تكاملية بين الدولة والمؤسسات البحثية والأفراد المهتمين، يشكل السعي لتحقيقها خطوة مهمة باتجاه حماية الرواية الفلسطينية وتحصينها وجعلها قادرة على تقديم نفسها أمام روايات النفي والإزاحة.