نابلس - عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - يعيد الانقلاب العسكري الأخير في السودان مرة أخرى النقاش حول علاقة العسكر بمؤسسات الدولة بشكل عام، حيث ظلت هذه العلاقة شائكة عبر مراحل التاريخ حتى تمّت مأسسة الدولة الديمقراطية الحديثة في آخر مائة سنة. مرة بعد مرة يقوم الجنرالات بالانقلاب على الدولة لأسباب كثيرة لا يمكن التعاطف مع أي منها مهما كانت، لكن الناتج أن الدولة تعيش حالة من عدم الاستقرار تؤثر بشكل كبير على مجمل أشكال الحياة فيها، وبالطبع على قوتها وصورتها. يبدو غريباً بالنسبة لنصف سكان الكوكب أن يسمعوا أن ثمة من ما زال ينقلب على الحكم من أجل أن يسيطر على مقاليد الدولة، ومن أجل أن يسيّرها وفق ما يشاء لا وفق ما يشاء أفرادها.
عانت الدول المستقلة حديثاً بعد حقبة الاستعمار من كثرة الانقلابات فيها للدرجة التي بات الثابت أن يحدث الانقلاب بين عام وآخر، أما غير الثابت فهو أن تمر الدولة بحالة من الاستقرار. وكانت تجربة العسكر الجديدة في الحكم بعد رحيل الاستعمار تعكس نفسها في قلة الخبرة وعدم الدراية بمفهوم الدولة، وبعلاقة مكوناتها مع بعضها البعض. كان ثمة جهل واضح رمى بثقله على الممارسة للدرجة التي صار النزوع للانقلابات العسكرية سمة أساسية في وعي الكثيرين. لم تكن تلك الدول التي نشأت بعد رحيل القوى الاستعمارية بحاجة للمزيد من الأزمات، وكان يمكن لها لو شهدت حالة من الاستقرار أن تصل إلى مناطق الرخاء بضمان وإن لم يكن بسهولة، وأن تتحول من كيانات كانت تعتمد على مصاص الدماء المتمثل بالمستعمر الذي يمتص خيراتها، إلى دولة قادرة على إدارة دفة حياتها دون أي مشكلة، وأن تصبح دولة مواطنيها بشكل حقيقي. لكن هذا لم يحدث لأن العلاقة بين من يحمل البندقية وبين المواطن الباحث عن الشمس بعد عقود من الاحتلال لم تكن سليمة، وبدلاً من أن يتم البحث عن أفضل الصيغ من أجل تسوية العلاقة وفق قانون ناظم لكل شيء، فقد تضعضعت الدولة وتفككت بفعل الإرهاق الذي أصابها؛ نتيجة المساس بها وبأجهزتها من قبل الانقلابيين.
النتيجة أن جل الدول التي شهدت انقلابات عسكرية في بداية عملية تحررها وخروجها إلى الشمس تعثرت بشكل كبير اقتصادياً وسياسياً، وظلت عاجزة عن الانطلاق الحقيقي كدولة حديثة. قلة قليلة نجحت بعد أثمان باهظة في الحبو نحو الاستقرار الاقتصادي والرخاء، ربما بعض تجارب أميركا الجنوبية تشير إلى ذلك. لكن هذا كان ثمنه باهظاً، لأن المنطق لا يستقيم؛ إذ إن الدولة لا يمكن أن تأخذ القرارات الاقتصادية السليمة ولا تسن التشريعات المرضية إذا لم يكن المواطن شريكاً حقيقياً في عملية صنع القرار عبر توسيع دائرة المشاركة، وإذا لم يتم ضبط عملية تدخل في الحكم وفق الدستور. هكذا ببساطة انحازت النخبة ما بعد الاستعمار في بلدان الانقلابات إلى خيارها الذاتي على حساب خيار المجموعة، وظل المواطن بعيداً عن المشاركة، بل تحول وبسرعة إلى حطب لمعارك القادة. لقد عانت بعض نخب ما بعد الاستعمار من علّة أساسية في وعيها عن الدولة. صحيح أن الحرية كانت مطلوبة ولكن هذه الحرية لا تعني أن يصبح الآخرون عبيداً لنا. وصحيح أن القوة هي التي تحدد بوصلة الريح إلا أن حياة الناس لا يمكن أن تكون مادة للصراع على القوة، الصراع الذي لا يجلب إلا المزيد من الدمار. إن مراجعة التجارب العربية في الانقلاب تقول لنا الكثير حول لماذا تعثرت الدولة الوطنية العربية وظلت عاجزة عن أن تكون دولة مواطنيها.
وبالنظر إلى التجربة العربية، فإن العلاقة بين الجنرالات ومؤسسة الحكم لم تتغير حتى لو كان اسم الدولة جمهورية أو إمبراطورية لا يفرق كثيراً. هناك حالة من الهيمنة تقوم بها المؤسسة العسكرية والأمنية على أجهزة الدولة، وهي بالتالي تعمق تعثر الدولة الوطنية التي كانت بحاجة للكثير من الجهد حتى تقف بحق على قدميها بعد مرحلة التفكك الذي مارسه الاستعمار. الدولة ليست كلمة، ولا هي مجرد إعلان أجوف عن السيادة والاستقلال، بل هي في الحقيقة مؤسسات تنظمها القوانين، وإن غابت هذه القوانين فإن تلك المؤسسات لن تفلح في أن تستمر، والحال كذلك فإن المواطن الذي كان يقاتل الاستعمار من أجل الحرية سيصيبه الحنين للوطن الذي لم يجده حتى بعد رحيل الاستعمار.
الرجل على الحصان دائماً ما كان صاحب حظوة في الحكم، لكن مع تطور مؤسسات الدولة فإن ثمة علاقة يجب أن تنظم تواجد حصانه خارج الإسطبل. وما لم تكن هذه العلاقة قائمة على سيادة القانون والاحتكام له، فإن بوابة الإسطبل الهشة سرعان ما تصبح هي ساحة الحكم نفسها. لذلك فإن غياب الدولة الحقيقة وغياب المواطن الحقيقي كله يعمق أزمة الحكم العربية. من المحزن أن حال الدول العربية في تراجع اقتصادياً. انظروا فقط إلى موقع بعض الدول العربية اقتصادياً قبل أكثر من نصف قرن وموقعها الآن مقارنة مع العديد من دول العالم حيث سيصاب المرء منا بالخيبة.
أمر مفجع، ففي اللحظة التي كان يجب أن يتم البحث عن المزيد من تعميق الديمقراطية، وكان يجب العمل على تعزيز مؤسسات الدولة، فإن الدولة العربية تواجه المزيد من الانتكاسات التي لن تجلب للصالح العربي العام أي خير. تخيلوا لو أن الدول العربية دول ديمقراطية حقيقة، وتخيلوا أن المواطن فيها هو المعبّر الحقيقي عن الموقف السياسي؛ لأن الدولة ببرلمانها وحكومتها وجيشها في دولة ديمقراطية، لن يكون أمامها إلا أن تعبر عن موقف الجمهور. السؤال: هل يمكن أن يكون هناك تطبيع وقتها؟ وهل يمكن أن تحبو تلك الدول نحو الرضا؟!