نابلس - عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - بدا مفاجئاً للجميع ما جرى في أفغانستان. الجيش الأميركي ينسحب ويترك مواقعه لـ»طالبان». الحكومة الأفغانية التي صنعتها إدارة واشنطن تنحل ويتفكك الجيش وأجهزة الأمن التي أمضى الخبراء الأميركيون سنوات في بنائها. مثل تلة من الرمل في الصحراء عصفت بها الرياح. لكن حتى تلك الرياح لم تكن عاتية، فمجرد أن أتت بشائرها حتى انهارت تلة الرمل. كان الأمر صادماً وغير متوقعاً. صحيح أن مسألة الانسحاب الأميركي من أفغانستان كانت مادة نقاش في السياسة الأميركية وأن الأمر بدا للبعض مسألة وقت، لكن لم يكن أحد يتصور أن يتم الأمر بهذه الصورة، وأن يصحو العالم فجأة على الطائرات الأميركية تحمل جنودها خارج الدولة التي فعلت أميركا العجب من أجل أن تحتلها. الأحداث لم تجر في قرن آخر ولا في زمن مختلف بل إنها قريبة العهد. فالقرارات الأممية تم استصدراها من أجل أن تجد واشنطن حجة دولية لتدمير بلد قالت: إن قوى الشر تعشش فيه.. وكانت تقصد تحديداً «طالبان» وحلفاءها من «القاعدة» الذين اتهمتهم بأحداث الحادي عشر من أيلول. وتم تأليف التحالف الدولي الكبير الذي كانت غايته شن الحرب وتدمير «القاعدة» و»طالبان». وحلقت الطائرات من جهات الأرض المختلفة من أجل قصف المدن والقرى والمغارات في الجبال حتى وجدت القوات الأميركية طريقها إلى القواعد العسكرية، وأحاطت نفسها بالأسلاك الشائكة، وجاء الخبراء الشبان من الولايات المتحدة ليعيدوا ترتيب أمر البلاد المفككة.
وبجانب إسرائيل، فإن الولايات المتحدة ظلت آخر قوة استعمارية معاصرة، فهي كانت تحتل دولتين العراق وأفغانستان. وفي سبيل تحقيق احتلالها للبلدين دمرتهما وقلبت كل بلد منها رأساً على عقب. وفيما أفاد العراق من خبرته التاريخية في بناء قدراته وإعادة تطوير مؤسساته رغم وجود الميليشيا المختلفة المرتكزة على أعمدة طائفية، إلا أن أفغانستان فشلت في النهوض من أزمة الدولة الآيلة للسقوط. وربما تم اعتبار تلك النماذج مادة ثرية للبحث في العلوم السياسية حول الطرق الجديدة في إعادة بناء الدول المفككة في استكمال للبحث المتأصل حول دور الطرف الثالث في التدخل لبناء الدولة. عموماً ظلت أفغانستان تبرح مكانها ولم تنجح في أن تنهض كدولة مستقلة. والمؤكد أنه بالقدر الذي يتحمل الشعب وقواه الحية المسؤولية عن مثل هذا التعثر بقدر أن السبب الحقيقي لتعثر هذا النهوض هو الاحتلال. فالولايات المتحدة لم تكن تقصد فعلاً بناء العراق ولم تقصد فعلاً بناء أفغانستان. في الحالة العراقية ثمة سياق مختلف فالدولة ممتدة في التقاليد السياسية والشعبية منذ آلاف السنين وإن بأشكال مختلفة، أما في الحالة الأفغانية فإن التفكك الطائفي والعرقي ساهم بشكل كبير دائماً في تعثر نهوض الدولة. وربما الحروب الداخلية المستمرة وقبل ذلك استخدام القبائل كمادة أساسية في الاقتتال الداخلي وفي الصراع ضد السوفيات، فإن الخبرات الفعلية التي توفرت هو استمرار الصراع الداخلي بكل الأشكال.
شيء آخر حدث في أفغانستان. ففيما نجحت الحرب الأميركية في البلاد في تدمير تنظيم القاعدة وربما بشكل شبه نهائي، فإنها لم تنجح في القضاء على «طالبان». كان الخصم الأساس للقوات الأميركية هو فاعل الحادي عشر من أيلول والذي تم تحديده بـ»القاعدة»، وبطريقة أو بأخرى فإن قوة «القاعدة» في أفغانستان باتت شبه منتهية. على الأقل لم يعد ثمة نشاط ظاهر إعلامياً كما كان الأمر قبل ذلك. وبالتالي انتهى «القاعدة» وربما بانتهاء أسامة بن لادن شعرت واشنطن ببعض الرضا بأن رأس الشر بالنسبة لها قد تمت تصفيته في تظهير لعملية الانتقام التي أرداتها واشنطن على الصعيد المعنوي على الأقل. أما «طالبان» فقد بقيت. سياسياً فإن «طالبان» ليست قوة خارجية في الساحة الأفغانية، بل هي نتاج تكويني في المشهد السياسي الاجتماعي في البلاد، وبالنظر إلى تاريخ تشكل السياسة في البلاد وارتباطها بالمدارس الدينية وبالقبائل الكبرى يمكن إدراك جزء من أسباب بقاء «طالبان». «القاعدة» كان دائماً قوة خارجية استخدمت الدين والتقارب الديني في تواجده في البلاد، لذلك فإن انهياره في البلاد أو تراجعه كان ممكناً. ولكن ألم تعلن واشنطن الحرب على «طالبان» أيضاً؟ هذا الإعلان ظل مرهوناً بفهم واشنطن لمصالحها في البلاد. حين تم إعلان الحرب على التنظيم الإسلامي لأنه كان جزءاً من منظومة أشمل كانت هي بؤرة الاستهداف، لكن حين تغير الحال لم يعد الأمر كذلك.
هذا يقترح أمراً في غاية البساطة وإن بدا غريباً دائماً. لا ثابت في السياسة لأن جوهر السياسة المصلحة وطالما كانت المصلحة مرتبطة بالسياقات التي تنمو وتتغير فيها، فإن السياسة كذلك. هذا شيء بديهي. السؤال مرة أخرى: هل ثمة أخلاق في السياسة؟ لا أحد يعرف إن كان شخص آخر غير الفلاسفة يقر بذلك، ولكن المؤكد أن كل ممارسي السياسة الناجحين يعتبرون الأخلاق شيئاً مهماً لكن ليس ضرورياً. هكذا تتم تسوية الأمر. الأخلاق هي الضرورة والمصلحة. إذا ما فهمنا هذا نفهم الكثير من التحولات في المواقف والتبدلات في التوجهات. وعليه فإن تفكيك الوجود الأميركي في أفغانستان ليس إلا ضرورة أميركية. وأيضاً ثمة مصلحة فيه تكمن في توجهات واشنطن الجديد في المنطقة والعودة إلى منطق ريغان السابق في توظيف الدول والعصابات في حروب واشنطن بالوكالة.
السؤال الآخر. التقطوا أنفاسكم قليلاً قبل أن تجيبوا: هل يمكن أن تتخلى واشنطن عن بقية حلفائها في منطقتنا مثلاً. طبعاً القصد إسرائيل. أظن الإجابة بالقياس تحمل سذاجة سوء فهم لطبيعة المشروع الصهيوني وحقيقة مولده «غير اليهودية» وكونه أداة إمبريالية للتواجد في المنطقة. ومع هذا فإن ما جرى في أفغانستان يقترح أن لا شيء مستحيل إذا ما نجحنا في أن نظل في البلاد ونحافظ على وجودنا فيها مهما كلف الأمر من معاناة وألم.