وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - أعتقد أن المقارنة بين سقوط سايغون على أيدي الثوار الفيتناميين وسقوط كابول على يد «طالبان» مقارنة غير عادلة، رغم أنّ المنسحب في الحالتين أميركا، وفي الحالتين تتكرر نفس مظاهر الفوضى، والتخلي عن الحلفاء، وتركهم لقمة سائغة لانتقام السلطة الجديدة.
سأكون منحازاً لثوار فيتنام، الذين حاربوا بشجاعة من احتل بلادهم وخاضوا ضده حرباً حقيقية، رغم قسوة وعدم إنسانية الكثير من ممارساتهم تجاه السكان المدنيين، وضد معارضيهم.. وهي حتى لو كانت لا تقارَن بجرائم أميركا، إلا أنها تظل مدانة مرفوضة.
الذين تخلت عنهم أميركا في سايغون، وركلتهم «بالشلوت» وهم يتسلقون سلماً من الحبال للصعود إلى آخر طائرة عسكرية أميركية هاربة من البلاد، هؤلاء حاربوا إلى جانب أعدائهم، ليس بانخراطهم في مؤسسات النظام الحليف، أو بتقديمهم خدمات معينة للجيش؛ بل انتظموا في تشكيلات عسكرية، وشكلوا جبهة محاربة مسلحة ضد وطنهم، فاستحقوا مصيرهم.
في أفغانستان الأمر مختلف، فهذا البلد مبتلى بالحروب منذ زمن طويل، وتقلبت عليه غزوات احتلالية عديدة، وشهد تنصيب حكومات من شتى الاتجاهات، كانت لها ولاءات وأجندات متباينة ومتناقضة، وفي آخر أربعين سنة لم تهدأ جبهات القتال في عموم البلاد.. لذا، سيكون من الظلم محاكمة السكان المدنيين أو إدانتهم إذا رغبوا بحياة مستقرة، تؤمن لهم مصدر رزق بالحد الأدنى، حتى لو تطلب ذلك انضمامهم لمؤسسات الدولة وأجهزتها وجيشها، بغض النظر عن ماهية الحكومة القائمة.
الاختلاف الآخر أن الثوار الفيتناميين كانوا أعداء حقيقيين لأميركا.. أما «طالبان»، فهي صنيعة أميركا.. ومن قبلهم كان من سمّوهم «المجاهدون الأفغان» حلفاء أميركا، زودتهم بالسلاح والعتاد، وأمرت أتباعها في الخليج بتزويدهم بالمال والرجال.. وفي عهد ريغان تم تزويدهم بأحدث التقنيات العسكرية «صواريخ ستينغر» التي كانت من بين أسباب هزيمة الجيش السوفياتي.
وفي ذروة صراع الإخوة وتقاتل المجاهدين فيما بينهم عقب الانسحاب السوفياتي، كانت الاستخبارات الباكستانية (بدعم ورعاية أميركية) تجهز حركة «طالبان» (أغلبية من قبائل البشتون، الأقرب إلى باكستان عرقياً)، إلى أن مكنتهم من الاستيلاء على البلاد في نيسان 1996.
وكما وظفت أميركا «المجاهدين الأفغان» في حربها الباردة مع السوفيات، وظفت مخلفات الحرب الأهلية الأفغانية، من قوى الإسلام السياسي الجهادي («القاعدة»، والتي انبثقت عنها «النصرة» و»داعش») وظفتهم لخدمة مشروعها التوسعي الإمبريالي تحت حجة محاربة «الإرهاب الإسلامي»، فاحتلت أفغانستان والعراق وأجزاء من سورية لإقامة قواعد أميركية، وتنصيب نظم موالية وحليفة، وبالطبع من أجل نهب مواردها، والسيطرة على طرق إمداد الطاقة (النفط والغاز).
بعد عشرين سنة من احتلال أميركا لأفغانستان، انسحبت منها، ولكن لغرض إستراتيجي، وهو مواجهة الصعود الصيني، والدور الروسي المتنامي. وأفغانستان في قلب المنطقة، وهي الأنسب لمواجهة هذين الخصمين اللدودين.. ولن تجد أفضل من «طالبان» لتولي هذه المهمة.. فنظام «قرضاي» و»أشرف غني» نظام فاسد وضعيف، ولا تستطيع أميركا الاعتماد عليه في مواجهة العملاقين الصيني والروسي، أما «طالبان» (مع دور ومشاركة لكل من تركيا وقطر) ستكون له قدرة أكبر.
ومن خلال نظام إسلامي في أفغانستان، تضع أميركا عينيها على أهم منطقة في الصين: مقاطعة «شينجيانغ» على حدود أفغانستان الشرقية، تسكنها أغلبية مسلمة، ويطالبون بالانفصال، وتدعهم أميركا بتسخين قضيتهم، تحت اسم اضطهاد الإيغور. هذه المنطقة تشكل بداية طريق الحرير الجديد، والتي توصل الصين ببقية آسيا، جنوباً إلى المحيط الهندي، وشرقاً إلى أوروبا، وحوض المتوسط.
قرار الانسحاب من أفغانستان كان متخذاً منذ سنوات عدّة، في عهد ترامب، ونفذه بايدن. ما يعني أن الانسحاب لم يأتِ تحت وطأة الهزيمة العسكرية، إنما نتيجة تغير في الإستراتيجية الأميركية نضج تحت تأثير عاملين:
الأول: أنّ زمن الحرب التقليدية انتهى، وأصبحت الحروب الجديدة بين الدول الكبرى تعتمد السيطرة على التجارة الدولية، والتأثير في الاقتصاد العالمي، والذكاء الاصطناعي، والجيل الجديد من الإنترنت، والأمن السيبراني، وغزو الفضاء.. وهذه أمور تحقق فيها الصين اختراقات خطيرة.
الثاني: إدراك أميركي متأخر بفشل سياساتها الخارجية منذ انتهاء الحرب الباردة، أي فشل سياسة القوة والحروب الاستباقية واستبعاد الأطراف الدولية والإقليمية.. والتفكير بمسار جديد يعتمد الحوار والتفاوض والمؤتمرات الدولية، وهذا ما جاء حرفياً في تقرير لجنة بيكر / هاملتون (لجنة مشتركة من الجمهوريين والديمقراطيين، حزيران 2006). والذي أقر أيضاً بأن حل الصراع العربي الإسرائيلي يشكل حجر الزاوية لحل الأزمة في العراق. حيث جاء التقرير في فترة الاحتلال الأميركي للعراق، وفي ذروة انشغال أميركا بما سمّته الحرب على الإرهاب، حيث تنبهت إلى أن روسيا تستعيد عافيتها، وتسترد مكانتها في المنطقة والعالم، والصين تنهض كقوة عالمية اقتصادياً وتكنولوجياً، صارت تهدد أميركا نفسها.
وقد شكلت توصيات بيكر - هاملتون تحولاً في السياسة الأميركية، حيث أدت إلى انسحاب أميركا من العراق العام2009، وتأكيداً على هذا التوجه تمّ الإعلان عن «وثيقة مُعدّلة» لإستراتيجية الأمن القومي الأميركي (2021). أكدت على ضرورة إنهاء «الحروب المزمنة» التي تخوضها أميركا، والتي أصبحت عبئاً عليها، ولم تعُد مفيدة لها. وبدلاً منها يتوجب التركيز على ترميم الوضع الأميركي، داخلياً وخارجياً، لضمان الفوز في المواجهة الجديدة.
صحيح أن دخول «طالبان» كابول شكّل مفاجأة (من حيث سرعته) إلا أن سيطرتها على عموم أفغانستان كانت حصيلة مفاوضات جرت على مدى سنتين وأكثر في الدوحة بين «طالبان» والأميركيين، توصل الطرفان إلى تفاهمات معينة، أهمها ضمان «طالبان» بعدم السماح بتواجد أي قوة تهدد أميركا، بما فيها «القاعدة»، وعدم السماح بتدخل روسي أو صيني أو هندي أو إيراني في أفغانستان (وهؤلاء من يهددون تفرد الدور الأميركي). ما يعني أن أفغانستان ستصبح قاعدة متقدمة في حرب أميركا الجديدة ضد الصين وبقية خصومها ومنافسيها.
كما عملت أميركا على ترويض نسخة معدلة من «طالبان»، بالذات بما يضمن وقف هجماتها وعملياتها «الإرهابية».. مع صياغة شكلية لما يخص الشأن الاجتماعي (حقوق المرأة) وحقوق الأقليات والمدنيين.
في المحصلة ما يهم أميركا مصالحها العليا، وكل حديثها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان إنما هو هراء وبروباغندا مضللة، بدليل تسليمها البلاد لجماعة لا تعترف بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولديها سجل حافل بانتهاكات فظيعة لكل ما هو إنساني.. وفي هذا دلالة أخرى: سهولة تخلي أميركا عن حلفائها، وهو ما شهدناه مراراً وتكراراً.