النجاح الإخباري - بقلم/ أنور أبو رجب

سأبدأ بما قاله صديق لي في وصف حركة فتح، وهو قيادي سابق في احدى الحركات الاسلامية الفلسطينية، حيث يقول: "فتح هي الحركة الوحيدة التي تشبه شعبها، تشبه شعبها في تنوعه، فيها المتدين والملحد، فيها المسلم والمسيحي واليهودي، فيها العلماني واليساري، فيها السلفي وفيها المعتدل، فيها من يؤمن بالمفاوضات وفيها من يؤمن بالمقاومة، فيها كل ما في شعبها من تنوع، وهؤلاء كلهم لهم فيها متسع، فأين في غيرها ما يتسع لأي صاحب رأي لا يتطابق مع رأي المتنفذين؟".

فعلاً هي كذلك فحركة فتح ومنذ انطلاقتها كانت الفكرة الأرحب والأوسع لتضم في فنائها كافة أطياف الشعب الفلسطيني وشرائحه ونخبه بوصفها عابرة للأديان والمذاهب والأعراق والآيديولوجيا، وهذا هو واحد من أهم مقومات بقائها وديمومتها، ومن هنا كانت فتح التنظيم الوحيد الذي ينتمي له الفلسطيني دون الحصول على عضويته التنظيمية، فأنت لست مضطراً لأن تحمل عضوية الحركة لتكون فتحاوياً، يكفي أن تحمل الفكرة. وما يعزز من هذا المنطق هو امتلاك فتح لدرجة عالية من المرونة تسمح لها بالاستجابة والتفاعل والتأقلم مع المتغيرات والمستجدات والوقائع التي تمليها استحقاقات التقلب في العلاقات والمصالح الدولية والإقليمية وما يتبعها من تغيير في موازين القوى، بعيداً عن الجمود والشوفينية، ودون المساس بأركان وقواعد وأسس الفكرة، فهي مرونة تلامس الفروع وليس الأصول.

الزعيم الشهيد الخالد في قلب وذاكرة الشعب الفلسطيني وأحرار العالم ياسر عرفات أول رئيس لحركة فتح، كان له وما زال حتى بعد استشهاده دور محوري في منح الفكرة مصداقية وقوة وصلابة بقدراته الخارقة في التعبير عنها بما ينسجم ويتفق مع مضمونها، بحيث ترك أسلوبه وسلوكه أثراً وقصة في كل بيت فلسطيني، ولدى جميع فصائل العمل الوطني على مستوى القيادة وعلى مستوى الكادر، وجابت كوفيته كل أنحاء المعمورة حتى باتت عنواناً تُعرف من خلاله القضية الفلسطينية، وكان يُقال إن كل فلسطيني يولد فتحاوياً بالفطرة، لأن كل فلسطيني كانت تتفتح عيناه على صورة وكوفية ياسر عرفات وتلتقط اذناه خطاباته ومقولاته لتصبح جزءا من ثقافته الوطنية.

لقد تحملت فتح (كتنظيم) بحكم قياداتها للمشروع الوطني أعباء المسؤولية التاريخية جنباً الى جنب مع فصائل العمل الوطني، ولكن تحملت أيضاً في سبيل ذلك أوزار وتبعات المراهقة السياسية لبعض التنظيمات، وارتهان البعض منها لأجندات غير فلسطينية والتي وصل ارتهانها لها حد المشاركة في مؤامرات قادتها أنظمة عربية لتصفية الحركة أو النيل من وحدتها وتماسكها وإضعافها بحد أدنى كثمن للشعار والموقف الذي تمسكت به حركة فتح "القرار الوطني الفلسطيني المستقل"، وهو ما لم تحد عنه حتى اللحظة.

حركة فتح وبوصفها قائدة المشروع الوطني وربان سفينة التحرر، كان لزاماً عليها أن تتخذ قرارات مصيرية وإستراتيجية انطلاقاً من رؤيتها الوطنية الجامعة وفهمها لآليات وأدوات الصراع وظروفه ومتغيراته ومنعطفاته التاريخية الصعبة (معركة القرار المستقل – م.ت.ف – الكرامة – بيروت وما بعدها- اوسلو) نماذج كثيرة يصعب حصرها، وخاضت في سبيل ذلك معارك متعددة واجهت فيها اصنافا مختلفة من المؤامرات والحصار وحملات التشويه والتشهير والتخوين والتكفير، ولكنها فتح... حيث كانت دوماً عصية على الترويض أو الاحتواء أو الكسر أو المساومة، لم تُخضعها الجغرافية أو الأموال، ولم تنل منها المؤامرات والانشقاقات، ولم تكسرها الاغتيالات. وهنا تبرز أهمية التنوع والمرونة التي تتمتع وتتميز بهما حركة فتح عن الآخرين، بوصفهما الحصانة التي حمت الحركة من جميع المحاولات التي استهدفت شطبها.

بفضل ذلك كله استحقت فتح بجدارة لقب "أم الجماهير"، وهو ما يشير إلى مدى اتساع الفكرة وصلابتها بما يعزز من مقومات بقائها وديمومتها، ويضمن لها الاحتفاظ بالتأييد الشعبي والالتفاف الجماهيري وإيمان النخب بفتح الفكرة، دون التأثر بالواقع الذي يشهده الجسم التنظيمي بين فترة وأخرى من كبوات ووهن، وربما كانت نتائج الانتخابات التشريعية عام 2006 دليلاً ملموساً على صحة ما نورده، حيث خسر تنظيم فتح في الإنتخابات، ولكن فتح الفكرة لم تسقط ولم تخسر بحسبة عدد الأصوات المتفرقة التي صوتت لفتح.

اليوم وبفعل الأمر الواقع الذي فرضته متغيرات وظروف متعددة ومعقدة، أصبحنا أمام نموذجين ومشروعين متناقضين، المشروع الوطني، مشروع الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 67 بعاصمتها القدس الشرقية "فتح الفكرة"، ونموذج الحكم والمشروع الإخواني الموازي "إمارة أو دويلة غزة الإسلامية" وتمثله حركة حماس، والذي يتقاطع ويتماهى مع الاجندة الاسرائيلية والأميركية (صفقة القرن) وأجندات اقليمية أخرى. وهذا الواقع بكل مساوئه وارتداداته على الواقع الفلسطيني على جميع المستويات والصعد، إلا أنه أعاد الاعتبار في اذهان الجماهير وتحديداً في قطاع غزة بكتلته البشرية الضخمة للمشروع الوطني الفلسطيني الذي تمثله وتقوده حركة فتح، لا سيما بعد أن تبنت حماس (في اطار مزاحمتها للمشروع الوطني) الرؤية السياسية لحركة فتح والوسائل والآليات التي اعتمدتها حركة فتح لتحقيق تلك الرؤية، بغض النظر عن الاهداف والنوايا والخطاب المزدوج التضليلي لحركة حماس، وبعد أن انكشف الوجه الحقيقي لحماس والاخوان عبر نموذج الحكم الذي قدموه للشارع الفلسطيني والأحوال الكارثية التي يعاني منها قطاع غزة تحت حكمهم.

ما نشهده اليوم أعاد الوهج لمفهوم "فتح الفكرة" لدى شرائح مختلفة ومتعددة من الشعب الفلسطيني، خاصة لدى النخبة من مفكرين وكتاب ومثقفين ومستقلين، وشريحة واسعة من الحزبيين ممن انسلخوا عن تنظيماتهم، والأهم لدى شريحة الشباب لا سيما في قطاع غزة. وبالرغم من هذه النظرة التفاؤلية إلا أنه من الخطأ الركون اليها خاصة في ظل الظروف المعقدة والصعبة التي تمر بها حركة فتح "التنظيم" والاستهداف المنظم الذي تتعرض له من قوى محلية وإقليمية ودولية بوصفها رأس الحربة في قيادة المشروع الوطني الفلسطيني المستهدف بالتصفية، وهو ما يستدعي أن تولى حركة فتح "التنظيم" أولوية ضمن برامجها وخططها ومشاريعها لتعزيز وتأصيل مفهوم "فتح الفكرة" بما يقود إلى استقطاب كل من يدور في فلك هذا المفهوم، خاصة وأننا مقبلون على استحقاق الانتخابات العامة التشريعية والرئاسية.