توفيق أبو شومر - النجاح الإخباري - هل جربتم أن تستعدوا للموت، وأن تختاروا بأنفسكم اللباسَ الذي تُحبون أن يراكم فيه مَن يُخرجون أجسادَكم من الركام، وأن تسمعوا آخرَ كلماتهم: «كان مهندماً جميلاً»، فتنتشوا طرباً وأنتم في غَمرة الموت؟
هل جربتم أن تسيروا في جنازتكم، وتختاروا مشيعيكم، ومكان قبركم، وأن تكتبوا قبل الجنازة خطبتكم الأخيرة، وأن تختاروا الخطيب والمعزين؟
هل جربتم أن تحفروا قبرَكم بمعولِكم، وأن تُصمموه كما سريرِ نومِكم بالضبط، وأن تختاروا وُشاح دفنكم المُطرَّزَ بلون حرير ثياب عُرسكم؟!
هل جربتم أن تَحضنوا بيوتَكم، وتُقبِّلوا كلَّ زاويةٍ من زواياها قُبلةَ وَداعٍ، وأن تَلمسُوا بأيديكم صورَكم المطبوعة على بلاطها، وأن تستعيدوا بصماتِ أصابعكِم التي اعتادتْ أن تُغازلها كلَّ صباح، وأن تبثُّوا لوعتَكم، وحبَّكم، وشوقَكم الأخيرَ لعتبات بيوتكم، خلالَ المسافة الواقعة بين صاروخين من طائرة، إف 16؟
هل جربتم أن تَقفوا قبل لحظاتِ الفِراق دقيقةَ صمتٍ، أمام كل نافذةٍ، وأن تقرؤوا على زجاجِها جزءاً من صلاة التضرُّع والخشوع قائلين:
«كُن حنوناً أيها الزجاجُ حين تتشظَّى، وتلمس وجهي وصدري، اغْمُرُ جسدي بِقُبلٍ من العِشقِ والهيام، واغرُزُ حبيباتِك البلَّورية الندية اللامعة وشماً في قلبي؟
هل جربتم أن تسمعوا صوتَ مفتاح باب البيت، وهو يَنشُجُ آخرَ آهاتِ اللوعة، في آخر تفاصيل علاقته الحميمة مع شريك العمر؟
هل جربتم أن تُشيعوا كلَّ درجة سُلَّمٍ في بيتكم، وأن تعزفوا على بقايا رخامِها سيمفونية خطواتكم على نغماتِ أغنية، الوداع الأخير؟
هل جربتم أن تستنشقوا رائحة احتراق ذكرياتكم، وأن تشاهدوا بأعينكِم بصماتِكم محفورةً على بقايا كلِّ حجرٍ من حجارةِ بيتكم؟
هل جربتم أن تلتقطوا آخرَ صورِ عائلتِكم المعلَّقةَ في حُجرة الجلوس، بلا أجهزة تصويرٍ، وأن تُعيدوا ضبطها وتشذيبها، في برنامج ذاكرتكم، ثم، تلصقونها على صفحات عيونكم الشفافة تبسمون لها بسمةً كومضةِ مصباحٍ أضاءَ متوهجا للمرة الأخيرة؟
هل جربتم أن تُجروا مَسحاً سريعاً في مخزونِ ذاكرتِكم، لتستعيدوا بقايا لحظاتِ الفرح التي عشتموها، وأجملَ هديةٍ أهديتموها إلى أنفسكم؟
هل جربتم أن تتركوا لوارثيكم أجمل أزهار الوصايا، وأجودِ ميداليات الحِكمةٍ، المسبوكة بذهبِ الحُنكة الخالص، المُطعَّم بألماسِ التجارب، ودُرَرِ الأصداف النادرة؟

أخيرا:
هل جربتم أن تستعيدوا وعيكم بعد الموت، وأن تُفاجَأوا بأنكم ما زلتم أحياءَ تُرزقون، وأن مدينتَكم، وهبتْكم حياةً أخرى، وأن حجارةَ بيوتكم لا تُشبه حجارةَ بيوت الأوطان الجُغرافية الأخرى، لأنَّ حجارة بيوت فِلَسطين تتحولُ بفعل ضغط الحنين، وصلابة الانتماء، إلى ألماسٍ يتبرعمُ، يُورِقُ، يُزهر، يُثمر ثمراً جنيّاً حُلواً سائغاً مذاقُه؟
مَن يرغب في خوضَ غِمارِ هذه التجربة عليه أن يتقدَّم بطلبِ لجوءٍ إلى مدينتي، غزة!
 لم تَعُدْ غزةُ أرضاً جُغرافية، فقد فارقَتْ جُغرافيتَها الطبيعية منذ زمنٍ بعيد، وأصبحتْ أثيراً سماوياً مُقدَّساً!