وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - كتاب «سيكولوجية الجماهير»، من بين أشهر وأهم الكتب على مستوى العالم، للمفكر والطبيب النفسي غوستاف لوبون.. وأهمية الكتاب في الرسائل الضمنية التي يبثها، سواء للجماهير، أم للقيادات التي ترغب بالتحكم في الجماهير وتوجيهها.. ومن ناحية ثانية، يعتبر لوبون مؤسس علم النفس الاجتماعي، وبنفس أهمية فرويد في تأسيس علم النفس، مع فارق بسيط ومهم، أن فرويد كان مهتماً بفهم الفرد، ونفسيته وعقله باعتباره كائناً مستقلاً، أما لوبون فدَرس الجماهير من ناحية سيكولوجية، وفَهم خصائصها ودوافعها وما يؤثر فيها، وما يحركها..
ولكي نفهم الكتاب جيدا، ينبغي معرفة خلفية الكاتب الثقافية والسياسية، والمرحلة التاريخية التي نشأ فيها؛ فهو من أسرة برجوازية تربطها علاقة جيدة بالحكومة الفرنسية، وقد عاش في الفترة التي أعقبت الثورة الفرنسية، وشهد ما رافقها من أحداث عنف وفوضى شديدة، والتقلبات الجذرية التي مرت فيها البلاد، ولاحظ كيف كانت الجماهير تغير موقفها وأفكارها في كل مرة، فمن الـمَلكية إلى الإلحاد ثم عودة الإمبراطورية والنابوليونية، ثم الـمَلكية مرة أخرى، وأخيراً الجمهورية.
لاحظ لوبون أن تقلبات الجماهير كانت شديدة، وأفعالها عنيفة، فاعتقد أن هذه الفوضى «الجماهيرية» ستعيد فرنسا إلى عصر الهمجية، وتابع بقلق وخوف صعود قوة الجماهير في عموم أوروبا في تلك المرحلة، متأثرة بالعوارض السلبية التي بدأت تبرز نتيجة التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية، ونشوء الأزمات الاقتصادية والسياسية، فالتحول إلى الرأسمالية كان له ثمن باهظ، وقد أحدث تغيرات عميقة في البنى الاجتماعية، وكانت الجماهير تعيش وتعاني من تبعات كل هذه التحولات.. وبدأت تعبر عن مصالحها مستفيدة من هوامش الديمقراطية. وكانت تلك المرة الأولى في التاريخ التي تتحول فيها الجماهير إلى قوة فاعلة.
ومع أن لوبون ألّف كتابه في نهاية القرن التاسع عشر، إلا أنه عاش الثلث الأول من القرن العشرين، وشهد صعود النازية والفاشية، ما أكد له (وللعالم) صحة ودقة تحليله وفهمه العميق للجماهير.
فألمانيا، التي أنجبت أهم الفلاسفة وألمع الموسيقيين وأبرز العلماء، وكانت تعد من أرقى الدول الأوروبية، وشعبها الأكثر تهذيباً.. فجأة، ظهر فيها هتلر، وتمكن من قيادة الملايين، والهيمنة على قلوبهم ومشاعرهم وتفكيرهم، لدرجة تحويلهم إلى قطيع، ينساق وراء الأفكار النازية والعنصرية ويخوض حرباً مدمرة، ويقترف الهولوكوست!! هذا أمر محير بالفعل، ولكن دراسة سيكولوجية الجماهير تعطينا المفتاح لفهمه واستيعابه.
وبالعودة إلى لوبون، يجدر التذكير بأنه يميني، ميكافيلي، ويحمل أفكاراً عنصرية، وقد اعتبر الثقافة الأوروبية فوق أي ثقافة، كما مجّد نابليون ودكتاتوريته، وكان يحتقر الجماهير، ويصفهم بحثالة البروليتاريا، لكنه لم يتجاهلهم، بل بالعكس، درسهم بمنتهى الجدية وبالمنهج العلمي، لذا فإن تحليلاته غالبا صائبة ودقيقة، وللأسف الشديد.
يعرّف لوبون الجماهير بأنهم مجموعة من الأشخاص يجتمعون في لحظة ما عند حدث معين، ويحملون طباعا وصفات نفسية مشتركة وعقلاً جمعياً موحداً، حيث استحوذت عليهم عاطفة معينة كالغضب أو الحب أو الكراهية أو الخوف، وهذه العاطفة تحثهم على أن يتصرفوا كشخص واحد منوم مغناطيسياً.
ويقول لوبون: حين ينخرط الفرد مع الجمهور سيفقد شخصيته الأصلية الواعية، ويبدأ بالتصرف بعقل الجمهور الجمعي اللاواعي، بتأثير العدوى الذهنية، أي انتقال الأفكار والمشاعر والعواطف بين الجمهور بسرعة وكأنها عدوى. وهنا سيكتسب الفرد روح الجماعة، أي سيكتسب قوة العدد، وسيشعر أن بوسعه فعل أي شيء يريده، وأنه لا يتحمل أي مسؤولية شخصية (المسؤولية ستكون موزعة على كل الجماهير) وأنه لن يُهزم بهذه القوة المضاعفة والهائلة التي اكتسبها للتو..
فالشخص بمجرد أن يجد نفسه ضمن مجموعة كبيرة، سيكتسب تلقائياً صفات وخصائص جديدة، والجماهير حين تحتشد معاً ستكتسب صفات مغايرة لصفات الأفراد المكونين لها (يشبه ذلك التفاعل الكيميائي، حيث ينشأ مركب جديد يختلف بصفاته عن صفات العناصر المشتركة في التفاعل)، وفي هذه الحالة ستؤثر الجماهير على عقل وقرارات الفرد، وستجعله قادراً ومستعداً للقيام بتصرفات ما كان سيفعلها لو كان وحده، وسيكون بمقدور شخص ما أن يتلاعب بكل هذه الجموع، ويوجهها كيف يريد.
ويعدد لوبون صفات وسمات الجمهور: أولها أنّ الجمهور متهور، وسريع الانفعال، وقابل لتغيير موقفه بسهولة، ذلك لأنه يتحرك مدفوعاً بعواطفه وانفعالاته، وقد فقد التفكير العقلاني والمنطقي، وبات تحت هيمنة غرائزه وعقله البدائي، وتحول إلى غوغاء، وهنا يتساوى الجميع: المثقف والأمي، الأكاديمي وراعي الغنم، الذكي والأحمق.. الجميع منساقون تماماً خلف روح الجماعة.
والجمهور ساذج، ويتأثر باقتراحات وتحريض الآخرين، وبالصورة الخيالية التي يرسمها العقل الجمعي المنفعل، حتى لو كانت مجرد هلوسات، نتيجة ما يسمى بالامتثال الجمعي.
وعواطف الجماهير متضخمة، ومبالَغ فيها، وبالتالي ليس لديهم حلول وسط في تقبل أو رفض الأفكار والمقترحات المعارضة لتوجهاتهم، فإما أن يرفضوها بالكامل، أو يقبلوها بالكامل، ودون تسويات، وما يلزم لتغيير موقفهم هو تغيير عاطفتهم إزاء الموقف.. وأخلاق الجماهير أيضاً متطرفة، فينحازون بشدة لطرف ضد الطرف الآخر، ويكون سلوكهم أيضاً متطرفاً، في البطولة والتضحية والتبرع وعمل الخير، وفي العنف الجماعي والذي يصل حد الإجرام.
والجماهير أيضاً متعصبة، ومتشددة، وسريعة الهياج، والغريب أن الجماهير ليست ثورية (كما يبدو عليها)، بل هي غالباً محافظة، وتحارب التغييرات الجذرية، وترغب في إدامة الأوضاع السائدة، بما يضمن لها الحد الأدنى من الراحة، وبأقل قدر ممكن من التضحيات.
والجماهير تتأثر بشدة بالإعلام الموجه، وبالإعلان وتكراره، وبالصور والشعارات الرنانة، والرموز، وتحركها الأوهام وهي تعلم أنها أوهام، لأنها تمنحها الأمل.
 والجماهير تؤمن بالفكرة وتنساق لها إذا ما تجسدت في شخص القائد المهاب، فيصبح شخص القائد، وسلوكه وكلامه أهم من الفكرة نفسها، بل إن الفكرة تتوارى تماماً خلف القائد.. وهنا القائد الناجح هو الذي يفرض هيبته على الجماهير فتطيعه، حتى لو كان مستبداً، لأن الجماهير من وجهة نظر لوبون متأثرة بروح العبودية، حيث قال: مهما حاولت الجماهير النضال من أجل الحرية فستفشل، وستختار في النهاية حاكماً مستبداً ليقودها.
هكذا تصور لوبون الجماهير، وقد تكون كذلك فعلاً، وهذا يفسر سلوكها المتقلب في الأزمات، وفي الانتخابات، واستطلاعات الرأي، ويؤكد مقولة «الجماهير ليست دائماً على صواب»، ويفسر التناقض بين أفكار الشخص حين يكون حراً، وحين يكون مع الحشود، وحين يفكر بنفسه ولنفسه وبصدق، وحين يصرح للإعلام، أو يتحدث أمام الجمهور.
والأهم أنه يفسر كيف تمكنت النظم الاستبدادية والأحزاب الشمولية والقيادات المدعية من سوق الجماهير والتحكم بها.