وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - في محاضرة للدكتور رؤوف أبو جابر على فضائية «الفينيق»، قال: إنه نشر بحثاً في مجلة «النعمة» تناول فيه سيرة آخر سبعة بطاركة يونان للكنيسة الأرثوذوكسية في القدس، وتبين له أن جميعهم ارتبطت أسماؤهم بقضايا فساد شخصي ومؤسساتي، وبقضايا تسريب أراض للمنظمات اليهودية الاستيطانية، في أهم مناطق القدس، ومناطق أخرى من فلسطين، بلغت آلاف الدونمات، حتى أنَّ ما قُبض من ملايين الدولارات لم يدوّن في أيّ سجلات رسمية، أو سجِّل في دول التهرب الضريبي، كجزر الكاريبي.
وقد أشارت أصابع الاتهام في العديد من المرات نحو البطريركية اليونانية الأرثوذوكسية في فلسطين بسمسرة وعقد صفقات مشبوهة سرية مع منظمات يهودية استيطانية، باعت بموجبها أراضي وأوقاف تتبع للكنيسة، خاصة في القدس، ومناطق أخرى من الضفة الغربية وفي أرض الاحتلال الأول 1948. وبحسب دراسة للباحث أليف صباغ عنوانها: «القضية الوطنية الأرثوذكسية»، فقد بلغت مساحة الأراضي التي باعتها الكنيسة الأرثوذوكسية في الفترة 1921-1925، حوالى 1120 دونماً داخل حدود القدس، وأكثر من 22 ألف دونم خارجها.
وكانت آخر صفقة تناولتها الصحافة في كانون الأول الماضي 2022، حيث تم تسريب خمسة دونمات من أراضي سلوان في القدس (على بعد مئات الأمتار من المسجد الأقصى)، وتعود ملكيتها للكنيسة الأرثوذوكسية.
الأسئلة المطروحة: كيف تتم مثل تلك الصفقات المريبة على مرأى ومسمع الجميع؟! ولماذا ترتبط دوماً وحصراً بالبطريركية اليونانية؟! وقبل ذلك، لماذا البطريركية اليونانية موجودة أصلاً في فلسطين؟
للإجابة، ولفهم الموضوع، يتوجب الرجوع إلى أصل الحكاية.
تقول المصادر التاريخية: إن السكان المحليين المسيحيين في بلاد الشام رحبوا بجيوش الفتح الإسلامي، وإنه لولا تعاونهم معها لما تمكنت من السيطرة على كل تلك المساحات الشاسعة، وإنه من بعدها عاش المسيحيون في أجواء من الحرية الدينية، ولم تتدخل الدول الإسلامية التي تعاقبت على حكم فلسطين في شؤونها الداخلية. وقد ظلت رئاسة الكنيسة الأرثوذوكسية بيد البطاركة والمطارنة العرب منذ أيام صفرونيوس (وهو من دمشق) حتى سيطرة اليونان عليها في زمن العثمانيين، حيث حصل التحول الدراماتيكي.
فبعد بضعة عقود من سيطرة العثمانيين على بلاد الشام، حدثت بعض القلاقل في البلاد، واحتج الأهالي على ظلم وتعسف الوالي التركي، وكان من بين الإجراءات التي اتخذها السلطان سليمان القانوني آنذاك لاحتواء الموقف استدعاء البطريرك العربي عطا الله الثاني، بطريرك المدينة المقدسة، إلى القسطنطينية، ومنعه من العودة إلى القدس، وعيّنَ «جرمانوس» اليوناني بدلاً منه، ومنذ ذلك الوقت، صار محرماً على المسيحيين الفلسطينيين والعرب إدارة كنيستهم بأنفسهم إلا بالرجوع لبطريركية يونانية، وصاروا مجبرين على التعامل مع وصايتها.
حدث ذلك عام 1534، وهو العام الذي شهد نهاية عهد البطاركة العرب في البطريركية الأرثوذكسية في الأردن وفلسطين، وبداية عهد البطاركة اليونان، والذي ما زال قائماً حتى اليوم، ولم تستطع (وربما لم ترغب) أي سلطة حاكمة تغييرهم وإعادة البطاركة العرب، رغم احتجاجات العرب المسيحيين ومطالباتهم المتكررة بذلك.
ويضيف صباغ سبباً آخر لمنح العثمانيين لليونان السيطرة على الكنيسة الأرثوذوكسية في بلاد الشام، وهو رغبة العثمانيين بالتحالف مع اليونان لمواجهة الأرثوذكس العرب، باعتبارهم خصماً مشتركاً للطرفين. ومصلحة العثمانيين في هذا التحالف هي تأمين الحدود الغربية لتركيا، فيما وجَد اليونانيون في ذلك فرصة للسيطرة على ما يعتبرونه كنيستهم، والتفرد بالمقدسات المسيحية في القدس.
ولاحقاً حصل جرمانوس على فرمان من السلطان العثماني مراد الثالث، منحه حقّ الإشراف الحصري على الأماكن المقدسة وأملاك الطائفة وأوقافها، في حين كان الإشراف عليها يتم منذ عهد معاوية بن أبي سفيان بمشاركة أعيان الطائفة، وليس حصراً على البطاركة.
وما تذكره المصادر التاريخية أن جرمانوس كان ذا نزعة عنصرية، وكل الذين جاؤوا من بعده ساروا على نهجه العنصري، بما يضمن إقصاء العرب عن المناصب الروحية والإدارية للكنيسة، فمثلاً قام البطريرك اليوناني ذوسيثيوس عام 1669، بسن قانون «أخوية القبر المقدس» الذي يحظر قبول أي عربي أرثوذكسي في عضويتها، كما أهملت البطريركية اليونانية شؤون البلاد، بما في ذلك رعايا الكنيسة المسيحيون، وأهملوا التعليم والصحة، وكان كل همهم جمع الرسوم. وعندما جاء المبعوث الروسي للبلاد عام 1860 باعتبار روسيا حامية الأرثوذوكس في أنحاء المعمورة، وجد أوضاع المسيحيين مزرية وبائسة، وحين سأل البطريرك عن ذلك، أجابه بأن هؤلاء مجرد فلاحين ولا يحتاجون للتعليم!
وفي الحقيقة، إن المسيحيين العرب لم يقبلوا هذا الوضع، وطالما احتجوا عليه، وقد خاضوا نضالاً مريراً على مدى خمسة قرون من أجل إعادة الإدارة العربية الوطنية لكنيستهم، والتخلص من احتلال اليونان لها، وهو ما يُعرف بِـ»تعريب الكنيسة». وما زالوا يخوضون نضالاً على المستويين الإعلامي والحقوقي من أجل استرداد الأوقاف التي تسرّبت إلى أيدي الاستيطان الإسرائيلي، والحفاظ على تلك التي لم تُسرَب بعد.
ولذلك، فإن القضية الأرثوذكسية في فلسطين والأردن ليست قضية دينية، بل قضية وطنية بامتياز تمسّ الوجود الوطني العربي لأبناء هذه البلاد عامةً ولأبناء الطائفة الأرثوذكسية خاصةً، وهي قضية تتعلق بأراضٍ فلسطينية تملكها كنيسة عربية، أوقفها أبناء فلسطين، بينما يتم إقصاؤهم وبشكل ممنهج منذ 500 عام عن إدارة كنيستهم. (هنادي قواسمي، موقع حبر).
ويقصد «بتعريب الكنيسة»، نقل الملكية والإشراف الديني والتصرف بكل الكنائس الموجودة داخل الأراضي الفلسطينية إلى العرب، ليصبحوا أصحاب الحق فيها، والتحكم بكل ما تملكه من أراضٍ ومبانٍ ومؤسسات. فالمسألة ليست جنسية البطريرك، وإنما هي ضمان وجود قائد أمين للكنيسة وحامٍ لأوقافها، وليس خائناً لها.
وربما تكون هنالك بعض العقبات أمام تعريب الكنيسة؛ فنظام الكهنوت «الإكليروس» غير مهيأ تماماً لهذه المهمة، لأسباب عديدة، منها عدم وجود العدد الكافي من الكهنة لاستيعاب التعريب، ولأن الأراضي والأوقاف المسيحية مسجلة باسم اليونان، وكل الاحتلالات المتعاقبة كانت دائماً في صفهم وتتستر على فسادهم.
وحالياً لا تستطيع السلطة الوطنية فتح هذا الملف، لأن الوصاية على الأماكن المقدسة أردنية، ولعدم رغبة السلطة في خلق إشكاليات مع أطراف دولية قوية عديدة، إذ إن الكنائس في فلسطين لا تخضع لليونان فقط، إنما لروسيا وأميركا وغيرهم.
ويشار إلى أن البطريرك ثيوفولوس يتعرض دوماً في كل ظهور له  لهتافات غاضبة ومنددة به، منها «كنيستنا حرة حرة، والخاين برا برا».