وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - لا أعرف متى ولماذا أثيرت هذه الضجة الإعلامية حول الشيخ متولي الشعراوي، لكن ما لفت نظري حدية الخلاف حول الرجل، بين من ينزع عنه صفة الوطنية، ومن يجعله في مرتبة القديسين والأنبياء. ونظراً لأهمية الموضوع، حيث إنَّ الشيخ الشعراوي واحد من الذين أسسوا وساهموا في صناعة وعي وثقافة جيل كامل، صار لزاماً أن نفهمه أكثر.
ولكن حتى نفهمه يتوجب تسليط الضوء على شخصيات أخرى اقترن ظهورها معه، وشكلوا معاً نتاجاً ثقافياً وفكرياً، بدا وكأنه مكرس لخدمة جهتين محددتين (الدولة المصرية، وتيارات الإسلام السياسي)، وأبرز تلك الشخصيات الدكتور مصطفى محمود، والشيخ عبد الحميد كشك.
ولكن قبل أن نتحدث عن تلك الشخصيات، من الضروري فهم طبيعة المرحلة التي ظهروا فيها، وأن نفهم توجهات النظام المصري آنذاك، وبالذات عقلية وشخصية الرئيس السادات، الذي يعتبر أهم صانع لتلك المرحلة بشخوصها ورموزها.
ما أن تولى السادات الحكم في خريف العام 1970 حتى وضع لنفسه هدفاً مركزياً ذا شقين، الأول: وطني، يتلخص في ترك أثر تاريخي عميق وممتد، فكان عليه تجاوز آثار النكسة، وتبني حل سياسي يغير المشهد بالكامل. والثاني: ذاتي، فقد كان عليه إثبات حضوره الشخصي، والتفوق على كاريزما عبد الناصر، وكسب قلوب المصريين.
في الشق السياسي عمد السادات إلى استبدال تحالف مصر مع الاتحاد السوفياتي بإعلان الولاء للولايات المتحدة، على قاعدة أن أوراق الحل بيدها (تخلّصَ من الخبراء السوفيات)، ثم العمل على إنهاء الصراع مع إسرائيل (زار القدس، واعترف بإسرائيل، وعقد اتفاقيات كامب ديفيد)، وعلى المستوى الإقليمي أعاد ترميم العلاقات مع السعودية.
اقتصادياً، تبنى سياسة "الانفتاح"، وهي نهج اقتصادي رأسمالي أشبه بالنيوليبرالي، يتم فيه تقليص تدخل الدولة في الاقتصاد لصالح القطاع الخاص، أي إتاحة المجال للقوى الرأسمالية والكومبرادور أن تنمو وتتضخم على حساب الطبقات الوسطى والضعيفة.
ومن الواضح أن هذه التوجهات السياسية والاقتصادية على العكس تماماً من إرث الناصرية، وستشكل صدمة للوعي الجمعي المصري، وستضر بمصالح الشعب، وليس من السهل تسويقها وتمريرها. ومهما امتلك الرئيس من جرأة وبُعد نظر سيحتاج أدوات إعلامية تروج وتمهد وتساهم في إنجاح مشروعه. ومن البديهي أن الإعلام الرسمي وحده لن يكون كافياً.
في البداية سيواجه السادات قوتين مناهضتين: مراكز الدولة العميقة التي ما زالت مؤمنة بالناصرية ومتمسكة بإرثها، والقوى الحزبية المعارضة وخاصة اليساريين والشيوعيين. ولتجاوزهما قام بسلسلة تغييرات في هيكلية جهاز الدولة (الجيش، الأمن، الحكومة).
ولتكنيس آثار الناصرية والتخلص من اليسار، قام بإطلاق خصومهم التاريخيين (الإخوان المسلمين)، فأخرجهم من السجون، وفتح لهم معسكرات التدريب، وسمح لهم بإعادة بناء التنظيم من جديد، وافتتاح المقرات، وطباعة مجلاتهم الخاصة، وإعادة توزيع كتبهم المحظورة، والسماح لشيوخهم باعتلاء المنابر، وتسهيل مهمات دخولهم النقابات والبرلمان، وتشجيع الشركات الاقتصادية الخاصة بهم.
هل الهدف من ذلك كله التخلص من إرث الناصرية؟ الجواب لا. هنالك هدف أهم:
رغم أن السادات اكتسب شعبية كبيرة بعد حرب أكتوبر، إلا أن توجهاته السياسية والاقتصادية الجديدة بحاجة إلى ما هو أكثر من "انتصار عسكري"، وما هو أقوى من أي جهاز أمني. هذا المشروع بحاجة إلى رئيس قادر على إخضاع الشعب، وتمرير كل ما يريد بقوى خفية جبارة (الدين، الإعلام). وهو أسلوب معتمد منذ أقدم الأزمنة، استخدمته جميع السلطات على مر التاريخ، بل يمكن المجازفة بالقول: إن السلطات السياسية هي التي وفرت دعائم استمرار وتأثير المؤسسة الدينية على مر العصور، لما لها من قوة خفية، استطاع كل من وظفها البقاء في السلطة، والظفر بامتيازاتها، وتبرير أي سياسة ينتهجها.
أراد السادات إنتاج نسخة خاصة استخدم فيها المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر)، والمؤسسة الدينية الحزبية (الإخوان وغيرهم)، والمؤسسة الدينية الشعبية (استخدم فيها التلفزيون، ومنابر الجوامع). وقبل ذلك كله خلع على نفسه لقب "الرئيس المؤمن"، وروج لمصطلح دولة العلم والإيمان. والمفارقة المدهشة أن أحد نتاجات هذا المشروع كان السبب في مقتله (حادثة المنصة).
كان السادات يدرك أن سياساته الاقتصادية تتطلب تضخيم بيروقراطية الدولة، والتركيز على اقتصاد الخدمات، وإيجاد اقتصادات طفيلية موازية، والترويج للثقافة الاستهلاكية، بدلاً من التوجه نحو الإنتاج، وأدواته الحقيقية، أي التنمية الصناعية والزراعية، مع إدراك في أعماق وعيه أن ذلك سيؤدي إلى هبوط شرائح كبيرة إلى أسفل خط الفقر، وتآكل الطبقة الوسطى واتساع الفجوات بين طبقات الشعب، وانتشار العشوائيات السكانية، خاصة مع الانفجار السكاني الهائل، وتنامي الإحساس بالظلم الاجتماعي.
بالنسبة للنظام، لا مشكلة في ذلك كله، ففي جراب الساحر ما يصرف نظر الجماهير عن مشاكلهم الحقيقية، ما يحول دون انفجارهم، وما يجعلهم يوجهون إحساسهم بالقهر نحو أعداء متخيلين، ورمي سهام غضبهم بعيداً عن النظام، وما يقحمهم في معارك جانبية، بحيث يجد هؤلاء المقهورون النظام في صفهم ونصيراً لهم في تلك المعارك. وهنا يأتي دور رجال الدين.
وبالمناسبة، هذه التقنية ما زالت مُتبعة في سائر بلدان العالم الثالث، وتحقق نجاحات بارعة، حيث ينبري العامّة (وأغلبهم فقراء ومسحوقون ومقموعون) لخوض معارك جانبية ضد أعداء مُختلقين، بينما النظام ماضٍ في سياساته المعادية لمصالح الشعب.
سياسياً، سيقدم السادات على الصلح مع إسرائيل، ورغم جراءة الخطوة، والصدمة التي ستحدثها، إلا أن ما كان يحتاجه فتوى دينية تبيحها (سيفتي بذلك الشعراوي ومجموعة أخرى من المشايخ)، ومعارضة شكلانية لا تمتد إلى الشارع، وتكتفي ببيانات إنشائية واستنكار لفظي لا يتبعها خطوات فعلية (سيتولى "الإخوان" هذه المهمة).
في المجال الاقتصادي سيظهر ولأول مرة "بنك إسلامي"، وستتبعه شركات توظيف الأموال (التي تعمل بالبركة)، ولضمان نجاحها ستندلع حملة إعلامية ضد البنوك الوطنية (الربوية)، ومن "المصادفات" السعيدة أن يكون في مجالس إدارة تلك الشركات والبنوك الإسلامية أشهر الدعاة ونجوم البرامج الدينية، وبرواتب فلكية وأعطيات سخية جداً، وبرعاية دول النفط، في فترة المد الوهابي.
سنعرف كيف تمكن النظام من ذلك، وأين دور الشعراوي ومصطفى محمود؟