النجاح الإخباري - أترك لأيّ «أركيولوجي» أو «فولكلوري».. أو «سوسيولوجي» أن يزيدني علماً بأسباب ومعاني وفرة ثلاث مفردات في أسماء القرى والبلدات الفلسطينية: «بير»، «بيت». و«دير».
قلت أن «يزيدني علماً» لأنّني لست بجاهلٍ كثيراً.. أو متجاهلاً، غير أنّ النفس تنبو جفاف أساليب معظم الاختصاصيين في فنّ التعريف وركاكة العرض والتقديم.
خذ، مثالاً، تلك المتعة التي تجدها في «مقدمة» ابن خلدون، التي لا تغيب في ثنايا ومنعطفات، بل روح ونكهة، مؤلفات جمال حمدان حول مصر في عبقرية المكان، والزمان.. والدور.
لا يتقن فن التقديم إلّا عالم اتسع أفقه، ورقّت عبارته، وحسُنَت ديباجته. أي «العالم العارف» أو من أدرك رتبة «بحر العلوم» كما كانوا يقولون.. ولو مبالغة حميدة!
مثال آخر: إلى الآن، أعود إلى سلسلة مقالات نيّرة الأسلوب، عميقة المدارك، كتبها الأديب خوان غويتسولو عن الجزائر، فأجد في ثناياها ما يفسر بعض ما جرى قبل أن يكتبها ذلك الأديب «المُنَوبَل»، أي حائز «نُوبِل».. كما يفسر بعض ما يجري.. وأكاد أشتطّ وأقول: بعض ما سيجري.
الأمثلة ليست مفردة ولا متفردة. مثلاً: مذكرات بابلو نيرودا لا تقلّ جمالاً عن بقية إبداعاته.. وحتى مواقفه الإنسانية - السياسية - الفكرية.
أيضاً، أنا من أولئك القائلين: إن نثر شاعرنا محمود درويش لا يقلّ عن شعره.. سوى أنني قلت ذلك قبل كثير من النقاد، أي قبل 15 سنة. ولا أعتقد أنّ إضافة شاعرنا وناثرنا إلى فنّ الخطابة إضافةً هيّنة، أيضاً.. وحتى إلى الفكر السياسي الفلسطيني، وإنْ بأسلوبه الذي يفتح الجرح المتقيّح بيد ويبلسمه باليد الأخرى، كأنّه ينقذ الجسم من «الغنغرينا»، والخيال الإنساني من السقوف والجدران «الوطنية» الصارمة، السميكة والواطئة.
***
مما أُتابعه بشغفٍ على شاشة التلفاز (القناة الثانية الأردنية) حلقات لـ «حضارات مفقودة» Lost civilization فهي كأنها تحوّل الكولسترول الذهني والفلسفي غير الحميد (الخفيف) الذي غرفت منه، إلى ذلك النوع الحميد (الثقيل) فتُعدِّل عامل «قلوية» موسوعة «سلسلة الوجود الكبرى» التي أتخمني بها جون ديوي (إنْ لم أَسْهَ) في صباي، إلى عامل «حمضية» المعرفة العميقة.. والمشوّقة.
والسلسلة المتلفزة تلك، توسّع مدارك، أو تنيرها وتضيئها، قد أكون جنيتُها من مطالعة «موسوعة» ذلك المؤرخ الألمعي حول «قيام الإمبراطوريات وسقوطها»، وأسرار (أي أسباب) ذلك «السلام الروماني» (باكسا رومانا) الذي ساد خُمس العالم المعروف طيلة 200 سنة، قبل الميلاد وبعده، دون أن تضخّم دور يوليوس (أوغست) قيصر.. أو تبخسه حقّه (أو تتعامل مع هانيبال القرطاجي «كإستراتيجي» عبقري ارتكب غلطةً «تكتيكية» قاتلة).. أو ننسب انهيار الإمبراطورية الرومانية إلى مضاء سيوف جُند الإسلام، وحدهم.. أو شدّة حميّتهم وبسالتهم «الأسطورية «.. المستمدّة من «بطّارية» الإيمان.
***
وجدت مدن الضفة والقطاع (وقراها) أقلّ سوءاً، أو أكثر سوءاً بقليل، مما «تخيّلتها» بناءً على قراءات، ربما لأنني عدت وقد وطّنت نفسي أنني «ذاهب» إلى البلاد، ولست «عائداً» إليها. وافترضت أنني سأجدها على غير الصورة المرتسمةِ مسبقاً.. لكنني وجدت البلاد كبلادٍ أجمل.
.. إلّا بيرزيت التي صدمتني. فقد كانت في البال أجمل وأكثر حيوية. وزادت صدمتي عندما عرفت بعض أسباب «تماوت» هذه البلدة، على الرغم من وجود جامعة فيها، كانت وما زالت «منارة» الحياة الأكاديمية لفلسطين الصاعدة والجديدة.
لست خبيراً في الزيت والزيتون، ولكنني أزداد خبرةً، خصوصاً بعدما علمتُ أنّ بعض زيتونات بيرزيت، خصوصاً تلك التي بين بعض بيوتها الكسولة، هي من نوع «نيبالي مُحسّن ألِفْ ألِفْ».
بدأ موسم القطاف وانتهى، وتساقطت حبّات الزيتون هباءً. وبعد سنواتٍ بلا «حِراث» ستسوء نوعية تلك الأشجار الممتازة، التي أعطت البلدة اسمها، وأعطت البلاد رمزها.. والحياة الأكاديميّة منارتها.