وكالات - طلال عوكل - النجاح الإخباري - العالم ينقسم بين من يدافع عن نظام عالمي قديم، جرّبته البشرية لعقودٍ طويلة، وبين من يسعى لتغييره إلى نظام متعدّد الأقطاب.
المدافع والمهاجم، يدفعان ثمن هذه العملية التي تبدو وكأنها عملية قيصرية، لكنها في الواقع نتاج تطوّرٍ طبيعيّ لتحرك موازين القوى، والتغييرات المصاحبة، والتي أثبتت عُقمَ النظام القديم، ومسؤوليته عن الكثير من المصائب التي حلّت بالبشرية.
ظاهرة الاستقطاب لا تزال في بداياتها. فبينما يعمل سدنة النظام القديم، على عزل روسيا كهدف معلن ومعها الصين كهدف غير مباشر، فإن روسيا تعمل على توسيع دائرة تحالفاتها الحيوية، ابتداءً من المحيط القريب، ومن بوابات الشرق الأوسط.
لا تستطيع أوروبا، أن تكون خارج حالة الاستقطاب فهي وإن كانت تعاني من الهيمنة الأميركية، إلا أنها جزء من النظام القديم، ولكنها تقف في مربّع الضحية الكبرى.
نظام العقوبات الذي اعتمدته الولايات المتحدة بحق روسيا، وانخرطت فيه أوروبا دون حسابٍ لمصالحها الخاصة، أصبح عبئاً على الأطراف التي انتهجت سياسة العقوبات وروسيا التي تقع عليها العقوبات، فالكل يدفع الثمن والكل خاسر مع تفاوت حجم ونوع الخسارة.
لقد وفّرت السياسات الغربية كل أسباب الحرب، وخلقت الدوافع، لكن المبادرة الروسية، من موقع دفاعي رغم شكله الهجومي، كانت بالتأكيد مدروسة، وقد جرى تحديد أهدافها وأبعادها الإقليمية والدولية.
بعض المتحاملين على روسيا، ومن موقع انحيازهم للغرب الرأسمالي وبعضهم عن جهلٍ مطبق، قدم مطالعات تستهين بما تملكه روسيا وما يمكن أن تقوم به، وباعتبارها لا تملك شيئاً يفيد البشرية ويسعفها على المقاومة والصمود.
والبعض راهن على أن روسيا الدولة النووية الكبرى والمدجّجة بالأسلحة لا يمكنها أن تصمد بسبب ضعف اقتصادها، وأن إنتاجها القومي السنوي، يساوي الإنتاج القومي السنوي لدولة مثل إسبانيا.
الحرب لا تزال طويلة، ومن غير المنطقي أن تتوقف قبل أن تحدث التغيير المطلوب على مستوى النظام الدولي، ولذلك فإن روسيا لا تبدي تردداً في التأكيد على أيّ تسوية، ينبغي أن تكون وفق الشروط ولتحقيق الأهداف الروسية.
لا يبدو أن روسيا تستعجل الحسم وهي قد حققت بعض الأهداف المهمة ميدانياً، فإذا كان الشعب الروسي يعاني جرّاء مسلسل العقوبات، فإن على من اعتمدوا هذه العقوبات أن يعانوا، أيضاً، وقد بدؤوا يعبّرون عن معاناتهم، نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار المواد بما في ذلك الغذائية، ونقص إمدادات الطاقة، وتوقف عديد خطوط الإنتاج، وتصاعد الاحتجاجات والإضرابات العامة التي يشكو أصحابها من تراجع قيمة الأجور.
لا يمكن في هذا السياق تجاهل أثر المليارات التي تصرفها أوروبا والولايات المتحدة، على شكل أسلحة ومعدّات عسكرية ومعونات مباشرة لأوكرانيا التي لم يدرك نظامها بعد أنه الضحية الأولى لهذه التغييرات.
في روسيا، ثمة معاناة بالتأكيد ولكن النظام السياسي والاجتماعي مستقر، وقد فشلت كل محاولات الغرب الرأسمالي في تحريض الروس على نظامهم السياسي.
يُخطئ راسمو السياسة في الدول الغربية، حين يراهنون على أن الحصار والعقوبات الشديدة، يمكن أن تهزم الإرادة.
فها هي إيران تقدم نموذجاً على الصمود لسنوات طويلة، دون أن تظهر أي إشارة إلى الضعف والتردد أو الاستعداد للاستسلام، بل إن الحصار والعقوبات خلقت الدوافع لتطوير القدرات الذاتية واستنهاض طاقة الشعب الإيراني.
تفاعل حالة الاستقطاب يشكل امتحاناً أخيراً للولايات المتحدة وحلفائها من حيث قدرتها، واستعدادها في الأساس لتقديم عونٍ حقيقي في معالجة الأزمات التي تعاني منها الدول الفقيرة، أو حتى سحب يدها من الأزمات التي هي سبب في نشوئها واستمرارها.
بيان جدّة تضمن تعهداً للولايات المتحدة في معالجة عديد الملفات، والأزمات التي تعاني منها المنطقة العربية والشرق أوسطية بدءاً من منع إيران من امتلاك قدراتٍ نووية، إلى أزمة "سد النهضة" الإثيوبي، والوضع في ليبيا وفي لبنان واليمن والسودان وسورية، فضلاً عن ملف الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي.
في كل هذه الملفات، الأيادي الأميركية موجودة بقوة وعلى نحوٍ مباشرٍ وواضح، وأحياناً تقف خلف الدور الإسرائيلي الشريك في كثيرٍ من هذه الأزمات، فهل بوسعها أن تغير سياساتها ودورها بما يسمح بمعالجة هذه الملفات والأزمات؟
العرب وضعوا الولايات المتحدة أمام هذا الامتحان بالرغم من تأكيدهم على العلاقات الاستراتيجية مع واشنطن، لكن هذا التأكيد مشروط بتغيير الدور الأميركي، ودون أن يمنع العرب من إقامة علاقات استراتيجية قائمة على مبدأ المصالح مع قوى عالمية أخرى تراها الولايات المتحدة عدوة لها.
خلال القرن الماضي، لم ينصف التاريخ العرب، فلقد كانوا ضحية للمشاريع الاستعمارية الغربية، وهم، اليوم، في وضع مختلف ليس لهم أي مبرر لأن يدفعوا أثماناً باهظة من كرامتهم ومصالحهم واستقلالهم لصالح آخرين.
قد يكون ثمة تعاون وتفاهمات ذات طبيعة عسكرية أمنية ولوجستية لبعض الدول العربية مع إسرائيل، أو مع الولايات المتحدة، ولكن فكرة ومشروع إقامة حلف معلن قد تبدّدت بسبب التحفظ العربي، وكان ذلك خطوةً ذكية لدرء مخاطر من نوع توفير ذرائع لنشوء أحلاف أخرى معادية وذات أبعادٍ إقليمية ودولية.
النتائج البائسة التي حققتها جولة بايدن إلى المنطقة شكلت الأساس لمخرجات وأهداف قمم طهران، الثلاثية والثنائية، والتي أبقت الباب مفتوحاً على وسعه، للحوار بين روسيا وإيران، ودول الخليج العربي، والدول العربية الوازنة.
صحيح أن القمة الثلاثية انعقدت تحت عنوان "أستانا" المتخصصة في الملف السوري، والتي أظهرت بعض الخلاف بشأن كيفية التعامل مع ملف القوى الإرهابية، لكن القمم الثنائية وحتى الثلاثية، ذهبت إلى ما هو أبعد بالصلة مع الحرب في أوكرانيا، وظاهرة الاستقطاب الدولي الجاري، ولكن دون الحديث عن أحلاف عسكرية، أو غير عسكرية، ودون أي استفزاز للجوار العربي.
لا ينبغي التقليل من أهمية الاتفاقيات الثنائية بين روسيا وإيران، وإيران وتركيا في مجال التجارة والاستثمارات، والعلاقات الثنائية، حيث وجد كل طرفٍ أن له مصالح استراتيجية عند الطرف الآخر، والحديث يدور عن دولة كبرى هي روسيا ودول إقليمية كبرى هي تركيا وإيران وكل له أهداف وينحاز إلى مصالحه.
في هذا السياق، يجدر بالعرب أن يستفيدوا من السياسة التركية، فتركيا عضو في حلف "الناتو"، وهي صاحبة الجيش الأكبر والأقوى بعد الولايات المتحدة، لكن مصالحها تتطلب أن تضع قدماً أخرى عند الأطراف التي تقف على رأس أعداء "الناتو" والولايات المتحدة.
حضرت المصالح والأهداف العامة والخاصة، وغابت القضية الفلسطينية عن ملفات قمم طهران، ولكن هذا الغياب المباشر والعلني لا يعني أن كل مخرجات تلك القمم تقاطعت عند الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، باعتباره محور حركة أطراف المنطقة الإقليمية مهما كان شكل واتجاه هذه الحركة.