طلال عوكل - النجاح الإخباري - أكثر قليلاً من ثمانية وعشرين عاماً، مرت منذ توقيع اتفاقية أوسلو في حديقة البيت الأبيض، في أيلول ١٩٩٣، الأمر الذي يستحق المراجعة وتصحيح ما ينبغي أو يمكن تصحيحه.
تقتضي المراجعة الموضوعية أن نتجنب، المواقف المسبقة، أو المواقف المغلقة، وأيضاً تجاوز منطق الـ»مع والضد»، وربما كان على هذه المراجعة، أن تغادر الزاوية الحادة، التي تجعل المرء لا يرى إلا لونا واحدا، فإما الأسود القاتم وإما الأبيض الناصع.
كان من الطبيعي أن تختلف مواقف الفصائل، والناشطين السياسيين والمثقفين بشأن حدث مفصلي، أدى إلى انتهاء مرحلة وبداية مرحلة أخرى في تاريخ الكفاح الفلسطيني سعياً وراء تحقيق الأهداف الوطنية، أو المشروع الوطني الفلسطيني، الذي يراه فريق هدفا استراتيجيا ويراه فريق آخر هدفاً مرحلياً.
المراجعة بعد كل هذا الوقت لم تعد نظرية صرفة، أو مجرد تخيلات سياسية وفكرية، فلقد اكتسبت بعداً عملياً، تدلل عليه وقائع على الأرض، لتشكل بوضوح مشهد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبما يؤشر أيضاً على آفاق هذا الصراع فضلا عن تداعياته.
ودون تجاهل، ولكن بصرف النظر عن الأخطاء والخطايا التي تضمنها الاتفاق وطبيعة التنازلات التي قدمتها الحركة الوطنية الفلسطينية ولا تزال تعاني من تبعات ذلك، فهل كانت الظروف الدولية والعربية وظروف الحركة الوطنية الفلسطينية، تقدم خيارات أخرى أفضل أو أقل خطراً من القبول باتفاق أوسلو؟
فلسطينيا كانت منظمة التحرير الفلسطينية في وضعية صعبة للغاية، خصوصا بعد خروج مقاتليها من لبنان، وتشتت القيادات، وتراجع الدعم العربي، بالإضافة إلى الضغوط السياسية والمادية الهائلة التي تعرضت لها بإدارة مركزة من قبل الولايات المتحدة الأميركية.
كانت الانتفاضة الشعبية الكبرى التي اندلعت العام ١٩٨٧، قد ضخت دماء حارة في عروق منظمة التحرير وفصائلها، ومكنتها مؤقتا من تجاوز أزمات تعرضت لها المنظمة من داخلها، ومن قبل الجماعة العربية غير أن تلك الدماء ما لبثت أن بردت، بعد مرور نحو ست سنوات على اندلاع الانتفاضة، وسنوات قليلة على انهيار المنظومة الاشتراكية وإعلان الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، عن قيام النظام الدولي الجديد بعد عاصفة الصحراء العام ١٩٩١، كانت السنوات السابقة على الانتفاضة قد أظهرت استعداد النظام العربي الرسمي، للتخلي عن دعم المنظمة والقضية، فلقد ترك العرب، المنظمة والحركة الوطنية اللبنانية، لمواجهة مصيرهم أمام الاجتياح الإسرائيلي للبنان حتى احتلال عاصمته بيروت، اكتفى العرب بالدعم الكلامي وبعضهم طالب الفلسطينيين بالانتحار.
كان العرب قد حددوا سقف النضال الفلسطيني في قمة فاس المغربية، ومبادرة الأمير فهد، والتي استجابت بهذا القدر أو ذاك، للبرنامج المرحلي الذي أقرته المنظمة العام ١٩٧٤.
لم يبادر لا الفلسطينيون ولا العرب، لرفع السقف بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية الفلسطينية، لكن الفلسطينيين اختلفوا على كيفية استثمارها.
الإجابة عن سؤال، هل كانت الانتفاضة الشعبية، تملك إمكانيات الاستمرار بزخم لسنوات أخرى، كبديل عن أوسلو، هذا الجواب في علم الغيب، ولكن كان من المشكوك فيه أن تبلغ مستوى تحقيق إنجازات وطنية في ظل الظروف الدولية والإقليمية في تلك المرحلة.
عربياً، انقسم العرب مرة أخرى بعد انقسامهم بشأن اتفاقية كامب ديفيد، وشارك بعضهم في حرب عاصفة الصحراء، ضمن قوات التحالف الدولي، وتحررت الكويت وخضع العراق لحصار مشدد، قبل أن يسقط ضحية الغزو الأميركي العام 2003، وحشرت منظمة التحرير في زاوية بتهمة دعمها للعراق.
العرب مهزومون، والانتفاضة الشعبية تراجعت قوتها ووهجها، والمنظمة والفصائل دون دعم عربي، بل في خانة الاتهام، والحصار أخذ يشتد على الكل، في ضوء التغير الكبير على مستوى النظام الدولي الذي خضع للاحتكار الأميركي، مع حضور عسكري أميركي وغربي امتد على مساحة واسعة من الدول العربية.
إن كان هذا هو المشهد، فإن ثمة وجاهة في تبرير الذهاب إلى المفاوضات التي أفضت إلى توقيع اتفاقية أوسلو، باعتبارها ثمرة هزيمة، إلا إن كان هناك من يرى أن الفلسطينيين والعرب لم يتعرضوا للهزيمة.
لا مجال للندم في السياسة، ولا مجال أيضا لاستخدام كلمة لو أن ذلك حصل، أو ذلك لم يحصل، ولا حتى لشرح المخاطر والأخطاء والخطايا التي تضمنتها اتفاقية أوسلو، وهي تتضمن الكثير، بعد مرور كل هذا الوقت، الذي شهد تنصل إسرائيل من التزاماتها تجاه الاتفاق، وافتضاح طبيعة السياسة الإسرائيلية التوسعية والاستيطانية، والعنصرية، لا يمكن أن نرى تعدد الألوان في المشهد الصراعي، أم أن اللون الأسود للاحتلال يطغى أو يطمس كل الألوان؟
في التقييم من غير المناسب أن يظل الفلسطينيون محكومين لازدواجية الألوان، وفقط رؤية اللون الأسود انطلاقا من الموقف الابتدائي، الذي يرى في اتفاقية أوسلو شراً مطلقاً.
لو قدر لنا أن نصعد في مركبة فضائية لمعاينة المشهد الصراعي، على الأرض بكل أبعاده، ما الذي يمكن أن تسجله العين المجردة بعد تجاوز الموقف الابتدائي من أوسلو، من يعارضه ويناهضه ومن يدافع عنه، نقف على جملة من النتائج.
أولاً، أوسلو نقل الصراع المباشر مع الاحتلال على الأرض الفلسطينية ليكون كل الشعب الفلسطيني وقياداته وفصائله في حالة التحام مباشر مع الاحتلال بكل آلياته، وممارساته، وسياساته واستراتيجياته، وخلق شخصية وهوية وطنية ذات أبعاد مؤسساتية موجودة في الجغرافيا والسياسة اسمها السلطة الوطنية الفلسطينية.
لسنا بصدد تقييم السلطة ووظيفتها، ودورها، وعلاقتها بالمنظمة أو بالمكونات الوطنية الأخرى، أو حتى بمجتمعها، فذلك يقال فيه الكثير وينطوي على الكثير من الأخطاء والسلبيات، ولكنها شخصية موجودة، لها مكانة على المستوى السياسي العربي والدولي وحتى الإسرائيلي.
ثانياً: صراع المشروع الوطني على الأرض ومباشرة، مع المحتل الإسرائيلي يرغم إسرائيل على تقديم سياساتها وطبيعتها على أوضح صورة، ذلك أن مشروعها توسعي، لا يرى للفلسطينيين حقوقاً سياسية، وهو مشروع استيطاني ومشروع تطهير عرقي، وكل ذلك مسقوف برؤية عنصرية فاشية ويقدم صورة دولة خارجة على القانون الدولي، إسرائيل بما هي عليه ودون مكياجات، تقوم بتصحيح مسار الصراع، وآفاقه، بما أنه صراع على كل الأرض والحقوق والتاريخ، وليس صراعا على جزء من أرض فلسطين التاريخية.
إسرائيل تفعل ذلك أمام الرأي العام الدولي، وحتى اليهودي بما يسلح الفلسطينيين بمبررات الانتقال نحو استراتيجية جديدة، ومشروع وطني جذري، يعود بالصراع إلى أصله.
ثالثاً: فيما اشتغلت إسرائيل على سياسة الفصل، وإشغال الفلسطينيين بهموم وأولويات وربما هويات مختلفة، لكل تجمع على حدة، في الداخل وغزة والقدس ومدن الضفة، فإنها فشلت في تبهيت الهوية الوطنية الفلسطينية وخلقت ظروفاً تسمح بتكامل أشكال المقاومة من الشعبي السلمي، إلى المسلح وما بينهما.
رابعاً: المشروع الصهيوني، ولد وترعرع في بلاد الغرب الرأسمالي بما أنه، مشروع استعماري استراتيجي للسيطرة على المنطقة، ومنع نهوض الأمة العربية، فإن الصراع على جبهة المجتمع الدولي تحظى بأهمية كبرى وخاصة.
أوسلو، وما جاء خلال هذه العقود، فتح المجال واسعاً أمام خوض هذا الصراع على المستوى الدولي بحيث باتت إسرائيل تشكو من العزلة وتشكو من تفاعل المجتمعات الغربية خصوصا الأميركية مع قضايا الصراع، ولصالح الفلسطينيين عموماً، والسؤال هو متى وكيف كان يمكن أن تحصل القرارات التي تتعلق بالقضية الفلسطينية، وتحظى بتصويتات تتجاوز المئة وستين صوتاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبصرف النظر عن طبيعة تلك القرارات.
وبرأينا فإن قادم السنين سيتيح الفرصة للفلسطينيين لكي يشهدوا تصويت إسرائيل ضد نفسها حين تصبح عنصرية قبيحة إلى الحد الذي لا يقبله المجتمع الدولي كما حصل مع جنوب إفريقيا العنصرية.
تحقق إسرائيل إنجازات على السطح سواء عربيا أو دوليا لكن الفلسطينيين يحققون إنجازات في عمق المجتمعات خاصة الحاضنة للمشروع الصهيوني، في ظل هذا المشهد ثمة نقاط سوداء تتصل بالأداء الفلسطيني، وقضايا تحتاج إلى تصحيح، وربما تصحيح جذري، لكنّ ثمة شعباً حيوياً صامداً على أرضه، وقدرة متفوقة على الإبداع تحدث عنها جدعون ليفي وآخرون من أبناء جلدته .. وللحديث بقية.