نابلس - حسن البطل - النجاح الإخباري - . ولكنها بـ ”فاسياء” أشبه!
ذات بدن حديدي مديد.
 سألت عبدالله: عن طولها وعرضها، فأجاب: 71*5،3 اجابة اوتوماتيكية تليق بمعصرة اوتوماتيكية.
إذاً، هذه فاسياء حديدية عملاقة. إنها تفعص ولا تنفعص.
الفاسياء - يا سيدي - دويدة لئيمة التلون؛ لئيمة التشكل .. وفوق ذلك هي طفيلية. تقتات ولا تقيت عصفوراً جائعاً. إنها  ألعن من حرباء تكتفي من مهارة اللؤم بالتلوّن. فاجأني الرفيق الكبير القديم ومرافقوه (فوجئوا بي؟) في ذلك المكان.
“ماذا تفعل بقعودك هنا؟”، فقلت: “الى أين ذاهبون أنتم؟”. كانوا يملؤون خزان سيارتهم. سيلقي الرفيق القديم محاضرة في القرية القريبة عن شرور أوسلو. هذه أوسلو مراوغة مثل الفاسياء.
هو يعرف أنني أوسلوي. إنه رفيق ذكي (لا يفوقني ذكاء؛ وأفوقه مكراً).
- “ما هذه القعدة هنا؟ تعال معنا”!
- “لا. هنا أتعلّم مزيداً عن تلاوين العلاقة الجديدة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج.. بعد البيرسترويكا”.
ليست الفاسياء الحديدية سوى معصرة زيتون آلية وحديثة، تقابلها محطة محروقات.
صاحبي عبدالله مضمخ بالبنزين يوماً، وبزيت الزيتون يوماً آخر.. ودائماً مضمخ بحبر الكتابة.
يلقمون شدق المعصرة الحديدي ملء أربعة أكياس من حب الزيتون. بعد عشر دقائق، يتلقفون من الجهة الأخرى، بأوعية بلاستيكية زاهية الألوان، سائلاً طحلبي اللون، أو بلون اشنيات “حزاز” الصخر.
هذا هو زيت الزيتون المقدس. زيت بكر. لون حديد المعصرة يشاكل اللون البكر لزيت الزيتون البكر، المجلّل برغاء أبيض لحظة مخاضه.
هل رأيتم ماء مخاض المهرة التي صارت فرساً؟
ليس لهذا التشاكل اللوني حقّرت المعصرة الحديثة والثمينة بنعتها بالفاسياء، لكنما أتشفى من ظلال ذاكرة خوف طفولية. معصرة القرية تسكنها الجنيات ذوات الخلاخيل. نهاراً، نتجرأ على مدّ أصبع من أصابعنا الصغيرة من ثقب مفتاح باب المعصرة الكبيرة. وسحبه بسرعة هاربين. بين موسم عصر الزيتون وموسم عصر العنب تسكن الجنّ المعصرة؟!.
وكنا نتحاشى، أيضاً، محاذاة المقبرة ليلاً، وأتون “الحمام التركي” ليلاً، لأن “الأمّيم” .. أو “بيت النار” صورة عن جهنم ونارها المستعرة. إمّا كانت أمهاتنا يخوفننا بالغولة، أو بنار جهنم التي تأكل الكفار.. والأولاد الملاعين.
كبرتُ قليلاً، صارت معاصر “البَد” أليفة وغامضة. مضمخة برائحة الزيت والجفت. دافئة، وغموضها لا تجلوه أضواء مصابيح شحيحة. بغال ذات “رياحات” على عيونها تدور وتدير الرحى.
عمال ينقلون قِرب الزيت على ظهورهم المغطاة بجلود الحيوانات.
كان الزيت يعبأ بأكياس من جلد البعير، الكيس يشبه وسادة كبيرة، أطرافها الأربعة مزمومة بشكل قرون لتكون مماسك، فيسهل على العمال حملها وتحميلها على طنابر يجرها بغل او حصان.
المعصرة الآلية الحديدية سافرة الوضوح بشكل وقح.. أشبه بلعبة ديناصور حديدي يلهو الأطفال بتركيبها وتفكيكها.. وداعاً  للغموض العذب.
رأيت معاصر البد، ومعاصر نصف آلية. ذهبت لأرى معصرة آلية بين قريتي عين عريك ودير ابزيع بدواعي فضول لا ينقطع. لكن، إذا سئلت هناك أعطيت الرفيق الكبير جواباً متلوناً كما تفعل الفاسياء: “علاقة قوى الإنتاج بوسائل الإنتاج”. علاقة  مقهور بقاهر. لست مقهوراً بـ”أوسلو”.. وهم مشغولون بفعصها كأنها فاسياء.
رجل وحده، يدعى مهيب، هو كل “قوة الإنتاج”. يضغط على الأزرار فقط، وينظف معدة المعصرة بماء ساخن مضغوط بين  كل عصرتين. الفلاحون يفرغون حب الزيتون هنا، ويعبئون زيت الزيتون من هناك.
الرفيق الكبير، القديم، ذاهب ليحذر الفلاحين من خبث فاسياء اوسلو؛ وأنا ساعدت فلاحاً على حمل كيس زيتون وتفريغه. سمح لي “مهيب“ بتنظيف معدة الفاسياء بماء ساخن مضغوط. لم أوفر قضم بعض حبات زيتون “جرجير”. لحست أصابعي المضمخة بزيت بكر. مسدت سكسوكة عمرها على وجهي أكبر بسنة من عمر فصيلي الغابر اليساري.
سألني الرفيق القديم أن أرافقه إلى محاضرة جماهيرية؟!. ماذا سأتعلم هناك؟!. تعلمت هنا كيف تعمل هذه “الفاسياء” الحديدية العملاقة.
ما هي الفاسياء .. أخيراً؟
دويدة مراوغة تتشاكل مع لون الأفنان والاوراق وهيأتها لتراوغ عيون الطيور، فتنجو من مناقيرها.
إذا فعصها الإنسان، سهواً، انتقمت منه انتقامها الأخير: رائحة  “فساء” كريهة. انمسخت الديناصورات طيوراً صغيرة. حتى طير “الفسفس” يخوض حرب وجود مع “فاسياء” مراوغة.
انمسخت مخاوفي الطفولية من معاصر غامضة مسكونة بالجنيات.. وانمسخت فصائل كانت تقتات على معادلة: “قوى إنتاج ووسائل إنتاج” كما علمونا، نقلاً عن الكتب. المعصرة مثل “فاسياء” عملاقة، حديدية تفعص ولا تنفعص، وليس لرائحة ما تفعصه ما يذكر برائحة فاسياء مفعوصة.
اوسلو مثل فاسياء تفعص ولا تنفعص. الفصيل اليساري مثل ..فاسياء؟!.
حسن البطل