مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - الأزمة تطال العالم الأول المهيمن، الذي اضطر الى تجاوز حالة التستر على علاقاته وأدواره، فقد اصبح اليمين العنصري داخل المجتمعات الغربية حاضرا ويدفع النظام التقليدي الى منافسته بشكل او بآخر. الانتخابات في ألمانيا والتحضير للانتخابات في فرنسا وقبلهما الانتخابات في الولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا عرّفت على الأزمة والتي كان أحد ابرز عناوينها انحسار اليسار وفقدانه لدوره التاريخي في أوروبا. وكجزء من أزمة أوروبا والغرب عموما تقدم إسرائيل نموذجاً متوحشاً يتواطأ معه الغرب من خلال تغطيته السافرة لأطول احتلال عسكري معاصر، ويتواطأ مع نظام ابارتهايد إسرائيلي بأيديولوجيا دينية متعصبة. لم يعد الخطاب السياسي الغربي حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي جديراً بالإنصات إليه بعد ان فقد صدقيته وتأثيره. الشيء نفسه ينطبق على الخطاب الغربي الموجه لشعوب العالم الثالث حول التنمية وحقوق الانسان والديمقراطية والحكم الرشيد، وحول الهجرة والمهاجرين والعلاقة مع الأنظمة المستبدة الخطاب الذي فقد بدوره صدقيته. قد يتندر البعض على هذا الكلام، كون موقف النظام الرأسمالي معروفاً تاريخياً، ومعروفاً عن دوله أنها لم تتصالح مع مرحلة الاستعمار السابقة. الخلاف ليس على جوهر النظام بل على سياساته التي تتأثر بموازين القوى وبالمصالح. ولما تغيرت الأخيرة، كتغير النظام العربي للأسوأ، وتتنافس روسيا والصين مع الغرب على مصالح ومراكز نفوذ اقتصادي بمعزل عن تحرر شعوب انسجاماً مع عبورهما الرأسمالية من الأبواب الواسعة، وتراجع اليسار على صعيد كوني، وتأثر النخب الثقافية والفنية والأكاديمية بتراجعه.
ما هو جدير بالملاحظة هو انحسار وضعف الطبقة الوسطى  وهي القاعدة التي انطلقت منها النخب الثقافية واليسارية السابقة ، ومارست التأثير على الحكومات والبرلمانات من داخلها وخارجها وتركت بصماتها على مواقفها وقراراتها، ذلك الانحسار حرر الحكومات من الضغوط، وجعلها عرضة لضغوط  اليمين العنصري والفاشي، وانعكس ذلك على بنيتها ومواقفها. وبفعل هذا التحول تبدو محاولة تغيير المواقف بالأسلوب والمعادلات القديمة غير مجدية. امامنا انحدار في المواقف الرسمية ولا مبالاة لدى الرأي العام، في الوقت الذي بدأ يتشكل لون جديد من المعارضة بخطاب ومواقف وأساليب جديدة لكنها لم ترتق بعد الى التأثير على المواقف الا في بعض البلدان.
موضوعياً، لقد استنفد النظام الدولي القائم دوره في التغيير الإيجابي، في الوقت الذي لا يمكن معه استمرار الأوضاع على حالها، او الانتقال الى اليمين العنصري ونماذجه المرعبة في الحكم أمثال ترامب أميركا، وبولسونارو البرازيل، وناريندرا مودي الهند، وبينيت أو نتنياهو إسرائيل، ومن لف لفهم. أبواب التغيير في أوروبا ضمن النظام القديم تفتح كما نرى لليمين واليمين العنصري. وبالمثل فإن التغيير الفلسطيني ضمن القوى التقليدية في السلطة والمعارضة يراوح مكانه ولا يبعث على الاعتقاد بأنه قادر على تجاوز الأزمة. ومن معالم ذلك ان دينامو الهبات المتلاحقة يتكون من عناصر جديدة، تقدم خطابا وشعارات ومواقف وأساليب وأدوات جديدة لكنها لا تمتلك المقومات الكافية والقادرة على انتزاع زمام المبادرة والانطلاق. وكان أفراد شبيبة الربيع العربي في مصر وتونس وسورية ولاحقا في السودان والجزائر والعراق ولبنان قد انطلقوا نحو التغيير لكنهم تعرضوا للقمع والاعتقال والاحتواء ولسرقة انتفاضاتهم من قبل الثورة المضادة.
التلاقي بين مكونات التغيير الجديدة على صعيد كوني وعناصر التغيير على صعيد فلسطيني وعربي اصبح ضرورياً، سيما وأنه يأتي في خدمة المصالح المشتركة الممثلة بالتغيير الديمقراطي والتحرري وتحقيق العدالة في مواجهة العنصرية والاحتلال والكولونيالية والتوحش والنهب والاستبداد. فلا يمكن إيجاد حل للقضية الفلسطينية إلا بهزيمة الفكر العنصري والكولونيالية المموهة بايديولوجيا دينية متطرفة. التلاقي بدأ اثناء هبة القدس وما بعدها، ذلك الالتقاء الذي يستند الى مبادئ ومنظومة قيم وسياسات، ومن أهم إنجازاته (الإعلان العالمي ضد جريمة الفصل العنصري المعروف باسم الابارتهايد)، الذي وقعت عليه 114 كفاءة علمية وأكاديمية وناشطو حقوق انسان من جنسيات مختلفة. الإعلان يشير الى عملية الإخضاع التي تعرض لها الشعب الفلسطيني عبر تشريد وتطهير عرقي وجرائم حرب منذ 73 عاما. والى إقرار إسرائيل بنظام الابارتهايد «قانون القومية». ويستند الإعلان الى توثيق منظمات حقوق الانسان «عدالة وبيتسيلم ومنظمة رصد حقوق الانسان» ودراسة اللجنة الاقتصادية الاجتماعية التابعة للأمم المتحدة. الإعلان يرى ان القوى الغربية قد سهلت بل وقدمت الدعم المادي للمنظومة الإسرائيلية المستمرة في ممارسة الاستعمار والتطهير العرقي والفصل العنصري، وما زالت تدعمها دبلوماسيا واقتصاديا وعسكريا. الموقعون أعلنوا رفضهم القاطع لنظام الأبارتهايد ودعوا الى تفكيكه الفوري، وحثوا حكوماتهم على التوقف الفوري عن التواطؤ مع نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، ودعموا المحكمة الجنائية الدولية لبدء تحقيق رسمي في أفعال القادة السياسيين الإسرائيليين وأعوان الأمن المسؤولين عن استدامة جريمة الأبارتهايد.
كل يوم نسمع بأشكال من المقاطعة والضغط الموجه لدولة الاحتلال، موقف البرلمان الايرلندي الذي أيد فتوى محكمة العدل الدولية بعدم شرعية الاحتلال ولاحظ وجود ضم فعلي للأراضي الفلسطينية، ودعا الى معالجة الأسباب الجذرية للاحتلال وفي مقدمة ذلك عدم تقديم العون لإسرائيل، وانهاء الضم الفعلي. بدوره أطلق المجمع الكنسي العام على إسرائيل تسمية دولة فصل عنصري، وأكد على رفضه وعلى حق عودة اللاجئين الفلسطينيين وعلى الحق الدستوري للاميركيين في الاحتجاج على تصرفات إسرائيل ورفض إدراج نقد إسرائيل والاحتجاج على سياساتها في خانة العداء للسامية. وثمة دعوات أميركية لتقييد المساعدات الاميركية لإسرائيل.
لا يمكن الخروج من متاهة عملية سياسية متوقفة ومرفوضة من دولة الاحتلال، ومؤجلة من قبل إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي الى زمن غير معلوم، لا يمكن مغادرة حالة الانتظار القاتلة إلا بإعادة تنظيم النضال الفلسطيني بخطط وسياسات واهداف تشرك قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، وتشبك مع مبادرات المتضامنين والأصدقاء في كل مكان. وبالقدر الذي يستطيع فيه المبادرون الفلسطينيون بناء المقومات والعمل على الأرض، بالقدر الذي يتم فيه التلاقي مع المتضامنين والمحتجين العالميين ضد سياسة الاحتلال. لجنة المقاطعة الفلسطينية حفزت شركاء دوليين، وعلى الأرجح فإن بناء أجسام فلسطينية فاعلة ومبادرة في مجالات الدفاع عن الأرض والبيوت، وفي مجال حقوق اللاجئين والحريات والأسرى والموارد المنهوبة، كل ذلك سيحفز دعماً ومساندة خارجية ومن شعوب عربية، في مواجهة الاحتلال ومن أجل إنهائه.