نابلس - حسن البطل - النجاح الإخباري - ينفخ الرّيح في زمّارته صيفاً، ويعصف فيها شتاءً، وتلك الراية الأممية الزرقاء كأنها، في النفخ والعصف، تحكي بحروف هجاء «لغة السيمافور» الأربعة: تتطوح، أو تترنّح في نفخ الرّيح بزمّارته صيفاً وخريفاً؛ وترفرف، أو تخفق، في نفخه شتاءً وربيعاً!
تمنحك الرّيح نسيماً عليلاً في رقصة الراية صيفاً وخريفاً؛ وتعصف مولولة ربيعاً وشتاءً. الجهات الأصلية أربع، والرّياح الأصلية أربع كذلك، وشقّتي مفتوحة النوافذ والأبواب على جهة ريح الشرق، المسماة «الصبا»، وريح الغرب المسماة «الدبور» مواربة، فهي محمية من ريح الشمال «الصرصر» شتاءً، وريح الجنوب ذات الغبار والخماسيني والطوز.
أهوّي الشقة بنوافذ ريح الصبا مشرعة دائماً، ونوافذ ريح الدبور مواربة غالباً، إلّا صيفاً وخريفاً، وعندما تترنّح تلك الراية الزرقاء تأتيني رسالة على الهاتف: «انزل» إلى مرآب العمارة في الصباحات أو المساءات، مرآب عمارتنا مفتوح الذراعين على «بطن الهوا» غرباً. يجتمع بعض شمل سكان العمارة على قعدة لا تخلو من فناجين قهوة وشاي أبداً، ومن إضافات أحياناً.
توزيع هندسي ممتاز لما يسمونه في الشام «مرآب» السيارات لسكان العمارة، وما يسمونه هنا «باركنغ». بين كل عمارتين أو عمودين يرفعان العمارة، هناك موقف خاص لكل ساكن. ليس لكل عمارة ما بعمارتنا من «باركنغ» مفتوح على نسيم عليل غربي صيفاً وخريفاً.. هذا «بطن الهوا» في رام الله التحتا.
ليس لدي تاكسي، لكن لدي موقفا يصير مخزناً لحطب مدفأة الشتاء، أو صار استعارة لموقف آخر جعله صاحبه، ما يشبه حديقة مسقوفة جزئياً بعريشة عنب.. فما أحلى الصباحات والأماسي بقعدة في ظلال عريشة العنب. تتسع كل حظيرة أو موقف سيارة إلى هامش تملؤه كراس وطاولات من فوائض الشقق. لكن عندما تعصف ريح «الدبور» الغربية شتاء وتولول، نلوذ بقاعة الخدمات، مع مدفأة حطب ومقاعد وثيرة، وكستناء أو بطاطا مشوية، أو حلوى وكاتوه في المناسبات، ومرّة «بيت أجر» لجار مات فجأة.. ولا بد من صولات وجولات لعب «الشدة».. وتصبحون على خير!
حلّت سهرات وقعدات الصيف والشتاء، بديلاً عن زيارات جيران العمارة في شققهم، وللأولاد والأحفاد لبعضهم بسكلاتات صغيرة يدرجون بها مرآب العمارة طولاً وعرضاً.. يتسابقون ويتطاحنون ضاحكين.
حصتنا من مجمع عمارات ثلاثي، هو «عمارة المحبة 3» لكن جيرتنا فيها غير جيرة العمارتين، في مقابل مدرسة عزيز شاهين الثانوية الرسمية للبنات، وعلى شرفة مدرسة «الأونروا» المتوسطة للأولاد، الذين يزوروننا أحياناً ولا يتزاورون فيما بينهم. كبرت الأشجار، وكثرت الورود والزهور، وشتّى نباتات القورات.. ومعها كبرت دوالي العنب، وشكلت نوعاً من سقف أخضر.. وما أحلى قعدات الصباحات والأماسي مع القهوة والشاي والعصائر، وتداول الجيران في مشاكلهم الخاصة، أو القضايا السياسية.
أخيراً، ومنذ عامين بالذات، هبطت «طرابيش» خزانات المياه البيضاء من على سطوح العمارة، واستقرت هنا وهناك في فسحات المرآب، أو «الباركنغ»، لأن قوة الضخّ في أيام حصة رام الله ـ التحتا من المياه لم تعد كافية لملء خزانات الماء على سطوح عمارة ذات ثمانية طوابق.. تحتضن بيتاً قديماً جميل البناء.
خزّان إضافي أو اثنان سعة 1500 لتر على أرضية «الباركنغ» لشفط الماء بمولّد كهرباء إلى الخزّان الأصلي على سطح العمارة. لكل عمارة جديدة موقف سيارات في أسفل مكان، لكن ليس لكل موقف «باركنغ» لعمارة سكنية ميزة مكان مفتوح الذراعين للرّيح الغربية الدبورية، مرصوف بحجارة رصف كالتي لأرصفة شوارع المدينة، سهلة الفك وإعادة التركيب لأشغال الصيانة إن لزمت لتسليك المواسير مثلاً .. أو لتعديلات في «الباركنغ».
من مصادفات جيرة طيبة أن مقاتلاً قديماً صار عقيداً في قوات الأمن الوطني ولد في بلدة دوما السورية، حيث كنت لاجئاً وصار جاراً، كما صار فدائي قديم آخر عقيد شرطة مدنية، وهذا وذاك خبيران في إصلاح أعطال الماء والكهرباء، وسخّانات الماء، أيضاً، وتعاونا على تركيب خزانات المياه الاحتياطية الأرضية، وتزويدها بالمحركات الكهربائية.
سُرّ من حظي بشقة في أطراف رام الله ـ التحتا، وبالذات سُرّ من كانت عمارته ذات «باركنغ» مفتوح على المدى الغربي، المسمى «بطن الهوا».
في كل سفرة يسألك شوفير التاكسي عن مكان بيتك، فتقول له: رام الله التحتا ـ مدرسة عزيز شاهين. هو أحسن «باركنغ» في عمارات أصدقائي غير المفتوحة على المدى الغربي.. لكن ثمة سؤالا: يُقال في العربية «برّك الجمل» أي قعد أرضاً على أطرافه الأربعة.. ولعلها مصادفة لغوية ليس إلّا، بين «برّكت» السيارة على عجلاتها الأربع.. أو أن المرآب هو «الباركنغ».
***
قائل قد يقول: هذا إنشاء مدرسي! لماذا لا.. لديّ مزاج سياسي شبه منحرف؟
حسن البطل