نابلس - عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - ربما الأصح أن نقول: غياب وحدة الحال العربية.. لكن كون وحدة الحال العربية باتت شبه مستحيلة، فإن أقل تقدير بات البحث عن حالة عربية مميزة تستطيع أن تشكل قاعدة لأقل القليل في العمل العربي المشترك. أيضاً هذا لم يعد ممكناً للأسف. بل إن كل الحديث عن أي شكل من العمل العربي المشترك بكل مستوياته بات مستبعداً، ويحق لمن يسمع أي حديث أو نجوى أو رغبة، أو تأمل أو آمال عن وحدة عربية، أن يظن أنه يستمع لحديث لا ينتمي للعصر الذي نعيش فيه، وأن من يقوله لا يعرف عمّا يتحدث أو عمّن يريد لهم أن يتحدوا.
ثمة افتراض أن مثل هذا الحديث كان ممكناً في أزمان مختلفة، وربما في سياقات مختلفة. وهناك شيء من الحنين الخفي للحظات ماضية كان الحديث فيها عن الحالة العربية الواحدة جزءاً من الحديث السياسي اليومي. صحيح أنه لم يتحقق، لكن البحث عنه كان ممكناً وكانت ثمة آمال كبيرة، وكان هناك قوميون يبحثون عن تحقيق بعض رؤاهم السياسية عن الوحدة العربية. هذا الافتراض كان مؤسساً على وجود تربة فكرية خصبة، وواقع سياسي خصب كان يمكن له أن يساعد في جعل تحقيق تلك الآمال ممكناً، بل كان يعمل على تسريع تحقيقها. الخلاصة أن هذه السياقات لم تعد موجودة، وربما باتت هناك سياقات نقيضة لها.
ومع هذا لم تتحقق الوحدة العربية. فحتى في أيام مجد الخطاب العربي عنها وعن المصالح المشتركة، فإن إنجاز مثل هذا المشروع الطموح لم يتحقق. كان ثمة تهديد مشترك يتمثل في إسرائيل، وكانت ثمة جيوش عربية تتحرك لتقاتل، وكان كل الخطاب السياسي العربي يجد مقولات مشتركة له عن هذا العدو الذي يهدد كل دولة عربية على حدة. العدو المشترك يبدو أساسياً في صوغ أي توجهات وحدوية عند أي أمة، وربما أيضاً تشكل الشعوب لا يتم بمعزل عن وجود هذا التهديد، فالشعور بمثل هذا التهديد هو ما يدفع الجماعات البشرية للتآلف وتكوين جماعات أكبر من أجل أن تدافع عن وجودها وتضمن بقاءها.
وحتى في سياقات مختلفة، فإن توجه الكثير من الدول في التاريخ الحديث لتشكيل اتحادات إقليمية كان من أجل ضمان زوال أي تهديد مستقبلي. التجربة الأوروبية تبدو مثالاً واضحاً في هذا السياق. فدول أوروبا الغربية الست التي شكلت أول نوية، تطورت منها فكرة الاتحاد الأوروبي، أدركت أن عدم وجود مصالح مشتركة بينها سينمي التهديد باندلاع صراع على هذه المصالح، إنه التهديد الذي جلب لأوروبا حربين كونيتين. فمن أجل تفادي أي فرصة لصراع المصالح، وما تشكله من تهديد، لا بد من تشكيل تحالف، ظهر في البداية على شكل شركة للفحم والحديد وهما المادتان اللتان كانتا تشكلان عصب الصناعات الحربية، وكان السباق على مناجمهما سبب اندلاع الصراع الأوروبي الأوروبي.
هكذا بدأت فكرة التكامل الأوروبي كفكرة لتجنب التهديد والبحث عن القواسم المشتركة. والشركة باتت اتحاداً سياسياً يضم سبعاً وعشرين دولة، وهناك دول أخرى تنتظر دورها للانضمام لأكبر اتحاد سياسي ومالي. في الحالة العربية، كان هناك زمن يشعر فيه العرب أن إسرائيل تهدد وجودهم، وأن ما قامت به من اقتلاع شعب فلسطين من أرضه وسرقة الأرض قد يحدث لأي دولة منهم، وكان هذا الشعور هو ما يجعل الحاجة لتطوير مصالح مشتركة أمراً ممكناً، لم أقل أمراً محققاً. فصحيح أن الحالة العربية كانت تتميز ببعض السمات المشتركة التي في جوهرها الشعور بالتهديد الصهيوني، إلا أن ظهور مثل هذا التهديد في حقبة ما بعد رحيل الاستعمار، وظهور الدولة الوطنية على نطاق ضيق، جعل من الاندماج العربي العربي أمراً متعذراً. فالدول حديثة الاستقلال هيمنت عليها نخبة عسكرتارية خرجت من رحم الحقبة الاستعمارية، أو نخبة ساعد الاستعمار على تنصيب بعضها، وفي الحالتين كانت كل النخب بحاجة لأن تمارس دورها في الحكم، لذا وجدت في أي اندماج عربي عربي تهديداً لفرصة ظهورها وسيادتها. من هنا كثر الكلام عن الوحدة وعن المصالح المشتركة، لكن في حقيقة الأمر لم يتحقق شيء من هذا. والتجربة الوحيدة التي تمت بين مصر وبين سورية لم تصمد أمام الحقيقة السابقة. وبالتالي مع فشلها تم طي صفحة الوحدة العربية.
لا يختلف الأمر فقط، بل يكاد يكون صورة نقيضة عن الزمن الذي أشرنا إليه. أيضاً ليس الصورة أنه لم يعد هناك تهديد واحد للدول العربية، بل إن ما كان يعتبر تهديداً بات صديقاً مقرباً للبعض. نعم؛ فإسرائيل باتت حليفة لبعض الدول العربية التي باتت تستخدمها في تهديد خصومها. ببساطة خارطة الأعداء والأصدقاء تبدلت. فالعلم الإسرائيلي يرفرف ربما عما قريب في نصف العواصم العربية، وبعض تلك العواصم يعمل عراباً من أجل أن تطبيع بقية العواصم مع تل أبيب، وبعضها يمول نشاطات في المستوطنات. من المؤكد أن الصورة قاتمة أكثر مما يمكن تخيله. إضافة إلى ذلك، إن الدول العربية باتت في خصومة غير مسبوقة. فهي تحترب وتذهب لامتشاق السلاح من أجل حل خلافاتها.
وربما أنكى من ذلك أن اقتراب وافتراق الدول العربية، وتحديد مستوى علاقاتها ببعضها البعض، تقرره قوى خارجية. لاحظوا التقارب العربي العربي سواء داخل الخليج أو مع خارجه، من يقرره شكل الإدارة الأميركية الجديدة، كما حددت الإدارة السابقة مستوى التوتر العربي. هكذا يواصل العامل الخارجي دوره في تفتيت الحالة العربية الغائبة من الأساس. وتواصل الدول العربية البحث عن مصالحها في غير حديقتها، فلا تجني إلا الشوك.