أنور رجب - النجاح الإخباري - بعد أن أصدر الرئيس أبو مازن مرسوم إجراء الانتخابات الثلاثية (التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني) وفق ترتيب زمني واضح، فإنه ومن الناحية العملية تكون الخطوة الأولى قد تم تنفيذها وهي الخطوة التي تأتي ضمن المرحلة الأولى (مرحلة الانتخابات) في سياق مسار وطني متعدد المراحل ومتشعب في قضاياه وأسئلته، ولتكتمل المرحلة الأولى هناك خطوات أخرى تضمن وتيسَر عملية تنفيذها عبر سلسلة إجراءات ذات علاقة بتنظيم آليات وأدوات واستحقاقات العملية الانتخابية برمتها سواء كانت رقابية أو قضائية أو إجرائية أو لوجستية. ويؤسس العبور من المرحلة الأولى إلى استكمال تنفيذ المراحل الأخرى من خارطة الطريق الوطنية، والتي تنسجم مع جوهر البيان الختامي لاجتماع الأمناء العامين في أيلول/سبتمبر من العام الفائت، وهي مراحل مترابطة ونجاح كل مرحلة فيها يؤسس لنجاح المرحلة التي تليها، تمثل العملية الانتخابية فيها المرحلة الأولى يليها مرحلة إنهاء الانقسام وهو ما يقود إلى التأسيس لتحقيق المصالحة والشراكة الوطنية والتي من الضروري أن ينبثق عنها الاتفاق على رؤية استراتيجية مشتركة لإدارة الصراع مع الاحتلال بعنوان واحد هو (م.ت.ف) ومن الواضح أن خارطة الطريق هذه وفي إطارها العام تحظى بشبه إجماع فلسطيني، ونقاط الاختلاف التي يمكن تسجيلها من البعض قد تكون إجرائية أو هامشية أو منطلقاتها حزبية وشخصية، ويكاد يتفق الجميع أيضاً أن مقياس النجاح في تنفيذ خارطة الطريق هذه وتحويلها من إطار نظري إلى مسار عملي يعتمد بالأساس على نجاح المرحلة الأولى (الانتخابات) بكل تفاصيلها وتعقيداتها.

إن مواجهة التحديات والمخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية خاصة تلك التي حدثت على مدار السنوات الأربع الفائتة تفرض إعادة قراءة للواقع الفلسطيني بعين وطنية خالصة بعيداً عن الحسابات الحزبية أو تحميل المسؤولية، وهذه القراءة تستوجب أيضاً سبر غور التحولات الجارية على المستوى الدولي والإقليمي لاستكشاف الفرص التي تلوح في الأفق بفعل تلك التحولات والعمل على توظيفها بما يضمن مواجهة تلك التحديات ودرء مخاطرها، وتحقيق أكبر قدر من إنجازات لصالح القضية الفلسطينية.

وفي سياق الحديث عن التحديات والمخاطر يمكن إجمالها في أربعة محاور، الأول: على المستوى الفلسطيني ويتعلق بتجذر وتعمق حالة الانقسام السياسي والجغرافي بفعل سيطرة حماس على قطاع غزة بالقوة المسلحة قبل 14 عاماً، وهو ما كان سبباً رئيسياً في حالة الوهن والضعف التي أصابت القضية الفلسطينية، وبروز الكثير من الأمراض الوطنية والمجتمعية. والثاني: على المستوى العربي، ويتعلق بما جرى من هرولة باتجاه التطبيع مع دولة الاحتلال الاسرائيلي والتساوق مع الرؤية الترامبية – الإسرائيلية في تغيير خارطة تحالفات وأولويات المنطقة بعد استبدال إسرائيل بإيران كعدو مركزي للعرب، ودمج إسرائيل ضمن المنظومة الإقليمية، والأخطر هو مساهمة البعض العربي في التأثير على الرواية الفلسطينية لصالح رواية الاحتلال، بالإضافة إلى تراجع أولوية القضية الفلسطينية على المستوى الشعبي العربي. والمحور الثالث: على المستوى الإسرائيلي ويتمثل في ممارسات الاحتلال ذات العلاقة بسياسات توسيع الاستيطان والضم والتهويد والتنكر الوقح لحقوق الشعب الفلسطيني، وهي السياسات التي يتنافس أقطاب اليمين حولها ضمن الحملة الانتخابية القادمة، خاصة في ظل هيمنة اليمين الإسرائيلي المتطرف وسيطرته على منظومة الحكم في إسرائيل. والرابع: على المستوى الدولي، ويتلخص في الآثار المترتبة على القرارات والإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب في إطار صفقة القرن، وبروز الضعف الأوروبي في مواجهتها، وهو ما يشي بأهمية عدم المراهنة على دور منفصل ومؤثر للأوروبيين بمعزل عن الولايات المتحدة.

في خضم هذه التحديات والمخاطر جرت العديد من التحولات والتغيرات على المستوى الدولي والاقليمي لا يمكن تجاهلها والقفز عنها فلسطينياً، وأهم هذه التحولات تتمثل في هزيمة التيار الشعبوي الذي قاد الولايات المتحدة على مدار السنوات الأربع الماضية وألحق الكثير من الضرر بالقضية الفلسطينية، وفوز الحزب الديمقراطي والذي والذي جاء بأجندة مختلفة وعلى النقيض تماماً من أجندة ترامب وفريقه في العديد من قضايا الشأن الدولي، منها ما يلامس الوضع الفلسطيني مباشرة، ويتمثل في إلغاء قرارات ترامب ذات الصلة بالشأن الفلسطيني أو غالبيتها، ومنها ما هو غير مباشر ولكن تقع القضية الفلسطينية ضمن دائرة تأثيراته، ومنها على سبيل المثال ما يتعلق بالمنظومة القيمية التي يتبناها الحزب الديمقراطي ذات الصلة بمفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وانعكاسها في سياساته الخارجية، وهو ما يمكن أن يقود إلى خربشة أو إعادة رسم خارطة المحاور والتحالفات التي كان يتم إعدادها للمنطقة، وهو ما نلمس مؤشراته واقعاً اليوم، ومنها أيضاً توجه الإدارة الأميركية الجديدة في إحياء التعاون والتنسيق مع أصدقائها وشركائها والمنظمات الدولية في معالجة الأزمات الدولية، بعد أن جمدت إدارة ترامب هذا الشكل من العلاقة بعزفها المنفرد، وهو ما يفتح نافذة أمام الطلب الفلسطيني بإيجاد مرجعية متعددة الأطراف للعملية السلمية وعدم اقتصارها على الولايات المتحدة، وكذلك لا يمكن تجاهل صعود التيار التقدمي وسيطرته داخل الحزب الديمقراطي وما صاحب ذلك من تغير في فهم طبيعة الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي عما كان سابقاً، وكذلك أيضاً فتح الباب على مصراعيه للأقليات في الإدارة الأميركية الجديدة في تجسيد فعلي لرفض العنصرية الصاعدة في المجتمع الأميركي وهو داء يعاني منه الفلسطينيون، وهو ما يجب استثماره وتوظيفه.

الأمر الآخر الذي تتضمنه أجندة الرئيس المنتخب، هو السعي لمعالجة قضايا المنطقة بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة التي أدار بها ترامب  تلك القضايا، ففي حين اعتمد ترامب سياسة البلطجة وفرض الأمر الواقع، فإن أجندة بايدن تعتمد مقاربات لمعالجة هادئة لتلك القضايا، ويمثل الموضوع الإيراني نموذجاً لهذه المقاربات. وربما التحولات والتغيرات التي تحدث في المنطقة من مصالحات وتسويات (المصالحة الخليجية، التقارب المصري – التركي) على سبيل المثال تأتي استجابة لأجندة ورؤية الإدارة الأميركية الجديدة التي تسعى لإخماد الحرائق التي أشعلها ترامب وخلق حالة من الهدوء في ملفات المنطقة توطئة لتسويتها (سوريا، ليبيا، اليمن، لبنان)، وهو ما قد يدفع إلى تغيير شكل التحالفات بين دول المنطقة وفي أولوياتها، وقد نلمس ذلك واقعاً في تراجع حالة الاندفاع والهرولة باتجاه التطبيع، كما نلمسه في الخلافات غير المعلنة بين أطراف تلك الاصطفافات نتيجة لتغير مقارباتها وسياساتها تجاه العديد من القضايا، وهو ما يتيح فرصة حقيقية للعمل فلسطينياً على إعادة القضية الفلسطينية لوهجها على المستوى العربي، ما يتطلب البحث في مقاربات وآليات تستجيب وتتفاعل مع المستجدات ذات العلاقة بعملية التطبيع من حيث المواجهة من جهة والتوظيف قدر الإمكان من جهة أخرى.

أمام هذه التحديات والمخاطر، وما يلوح في الأفق من فرص نتيجة ما يجري من تحولات وتغيرات على المستويين الدولي والإقليمي، يبرز سؤال المرحلة: ما المطلوب فلسطينياً، ما العمل؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من الإشارة إلى أنه ورغم قتامة وسوداوية الصورة وحجم التحديات والمخاطر التي عصفت بالقضية الفلسطينية خلال السنوات الأربع الفائتة، إلا أنه من المهم تسجيل النقاط المضيئة والإنجازات التي حققتها القيادة الفلسطينية بتلاحمها مع الشعب الفلسطيني والتي تمثلت في إنجازين مهمين، الأول إسقاط ما يسمى "صفقة العصر"، والثاني: وقف مشروع الضم، وهما إنجازان لم يكونا ليتحققا لولا صمود الشعب والقيادة الفلسطينية والرؤية الثاقبة للرئيس أبو مازن، وتحديه الأسطوري لبلطجة ترامب، وتغول بعض العرب على حقوق الشعب الفلسطيني، وهو ما يستوجب أن نبحث في كيفية استثمار هذا الفوز وتوظيفه في الإجابة عن السؤال، ما العمل؟

المؤتمر الذي عقده معهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي يومي الثلاثاء والأربعاء من الأسبوع الماضي، تحت عنوان "فلسطين 2021 إلى أين؟" واستضاف فيه مجموعة من قادة الفصائل والعمل الوطني ونخبة من المثقفين والأكاديميين والمهتمين بالشأن السياسي، ناقش باستفاضة وموضوعية التحديات والمخاطر التي تعصف بالقضية الفلسطينية وسبل مواجهتها والخروج من دائرة تأثيرها، وناقش أيضاً الفرص التي تلوح في الأفق بفعل المتغيرات والتحولات التي تجري على الساحة الدولية وكيفية استثمارها وتوظيفها بما يخدم المشروع الوطني الفلسطيني. وفي هذا الإطار يمكن القول إن مخرجات هذا المؤتمر وما انبثق عنه من نتائج وتوصيات كانت بمثابة إجابات مفصلة وشاملة للسؤال المركزي ما العمل؟ وهذه الإجابات بمجملها كانت في جوهرها محط إجماع من قبل جميع المتحدثين، سواء من حيث تشخيص الواقع بكل أبعاده وتقاطعاته وتناقضاته على جميع المستويات والصعد، أو من حيث الاجتهاد في تقديم رؤى ومقاربات ومعالجات تقود إلى الخروج من حالة الضعف والهوان والتراجع التي تمر بها القضية الفلسطينية، والتي يمكن تلخيصها وإجمالها في نقطة واحدة تشكل الأساس والعمود الفقري والركيزة الرئيسية والمحورية للاستراتيجية الفلسطينية للمرحلة القادمة وعليها يتم البناء في القضايا كافة، ويشكل تطبيقها المقياس والمعيار لنجاح أي حراك سياسي فلسطيني، وهي الوضع الفلسطيني الداخلي، وأهمية الخروج من حالة الركود والاستعصاء، ومغادرة مربع الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية وتحقيق الشراكة السياسية، والبحث في إيجاد استراتيجية عمل مشتركة لإدارة الصراع مع الاحتلال، وهو ما يقود إلى إجبار الآخرين على تغيير سلوكهم ومواقفهم تجاهنا، وفي الوقت نفسه يؤسس لنجاح أي حراك سياسي مستقبلي، ودون إحداث هذا التغيير فإننا ذاهبون باتجاه مزيد من التدهور والانحدار، وأن السبيل والمدخل لتحقيق خارطة الطريق الفلسطينية هو النجاح في تنفيذ المرحلة الأولى من تلك الخارطة والمتمثلة في إنجاز الانتخابات الثلاثية.