نابلس - منال الزعبي - النجاح الإخباري - ولد مختلفا في مجتمع لا يتقبل الاختلاف، لم يكن وحده بل معه إخوته الثلاثة من ذوي الاحتياجات الخاصة، معن أبو عيشة ابن قرية تلفيت جنوب مدينة نابلس ولد منذ 46 عاما بإعاقة حركية قيدت حركته وأطلقت العنان لإبداعه، فأتقن الرسم و الخط والتصوير وصولا لمشروعه الخاص "أستوديو أبو عيشة" كأول أستوديو في منطقته تلفيت.

لأب مثقف متعلم يعمل مديرا للمدرسة في بلدته، وأم مكافحة صبورة أنجبت 13 مولودا ليكون بينهم خمسة معاقين، واحد منهم فارق الحياة، أما البقية فعاشوا وأثبتوا وجودهم بل تركوا بصمة في المجتمع ليكونوا قدوة ومصدر أمل لمن حولهم.

من البداية لم تسمح هذه العائلة لخيبة الأمل أن تتسلل لأبنائها، حاوطوهم بالرعاية والاهتمام، وتعاون الأبوان على تربيتهم حتى اشتد عودهم.

معن الذي يعاني إعاقة حركية شبه كاملة، حمله أبوه بين ذراعيه يأخذه للمدرسة ويعيده منها، ويتابع تعليمه حتى بلغ الصف الثامن الأساسي، فرفض مواصلة الذهاب، أراد أن يرتاح من المعاناة، لكنّه لم يقعد حبيس المنزل بل رهن نفسه لمواهبه يرعاها ويتكفلها حتى نضجت، أتقن الرسم والخط، كان يرسم لطلاب صفه، ويصنع اللوحات الزجاجية المرصعة بالخط العربي.

أحضر كتب تعليم الخط العربي وواظب على التدريب حتى أتقنها، يحمل القلم بفمه مدفوعا بطرفه لتولد لوحات تنطق بالجمال يعجز عن نسجها الأصحاء إلا أنه لم يستطع تسويقها فأهداها للأقارب والأحبة، في حين أتقنت أختاه التطريز ورصعن زوايا البيت ببصماتهن المزركشة.

لم يقف معن إلى هنا، دفعه الفضول للأجهزة الكهربائية يتفحصها ويدرس آلية عملها، حتى أتقن إصلاح أي عطب فيها، يحمل المفك بفمه ويتبع حدسه القوي، حتى وقع بين يديه الحاسوب فغير حياته.

قال معن: "احتفالا بتكريم أبي حين تقاعده قدمت له المدرسة لاب توب، فكان من نصيبي، لم يكن باستطاعتي امتلاك جهاز كمبيوتر فتلقفته بفرح غامر، حيث أدخلني العالم الذي أحب".

استطاع معن أن يتقن برامج المونتاج، والفوتوشوب، تعلمها وحده عبر الإنترنت، واليوتيوب، في وقت كان قلة من الناس يعرفون بهذا المجال، يضع الإطارات للصور فتثير إعجاب الناس، مرة تلو أخرى اتضح الحلم وقفزت الفكرة لذهن معن لافتتاح استوديو تصوير كأول أستوديو في البلدة.

هذا الاستوديو لاقى ترحيبًا واسعًا لدى العائلة أولا ولدى الأهالي في البلدة ثانيًا، ومن ثم لدى المنطقة التي سارعت لمعن تطلب منه إخراج حفلاتها وتوثيق صور مناسباتها، فكان معن باب رزق فتح لأبناء وبنات أخوته وأخواته إذ أصبح معن معيلا لأسرته لا عالة عليهم.

اما أم صالح والدة معن فهي نموذج للمرأة الفلسطينية الصامدة المعطاءة التي تقف بشموخ كشجرة يتفيأ بظلها الكبير والصغير، قالت والابتسامة تنفرج على شفتيها: "معن وإخوته هم أصل سعادتنا، نحن لا نرفض هدايا الله، تقبلناهم بحب ورعيناهم بحب، وحتى الآن نعيش بكل الحب أسرة كاملة متكاملة لكل حقوقه وواجباته".

وأضافت، أصابني الحزن حين فارقني ابني الأكبر إلا أنني سلمت بالقضاء والقدر والبركة بالبقية منهم، ابني الآخر رغم إعاقته استطاع أن يدرس المحاسبة، عمل في بنك، والآن هو مدرس، ومتزوج ويعيش حياته بسرور".

أما معن فتراه فرحتها التي عبرت عنها بقولها: "بسوى عندي الف واحد برمحوا (بركضوا)، احنا بنحتاجه هو مش بحاجتنا".

يعمل مع معن ستة من أفراد العائلة، بعد أن استطاع توفير المعدات لهم، أول كاميرا حصل عليها من خاله، ولأنه لا يستطيع حمل الكاميرات ساعده أخوه الذي تكفل بالتصوير وعلى معن المونتاج، يضع الإطارات للصور حتى نالت إعجاب الناس وصار معروفًا بالمنطقة، بعد أن حصل على قرض من إحدى المؤسسات بقيمة 2500 دولار "قرض حسن بلا فوائد" فاشترى بقية المعدات.

تعلم برامج الكمبيوتر، الوورد والبوربوينت والفوتوشوب، أنتج أفلام الفيديو بطريقة احترافية جعلت من اسمه واسم استوديو أبو عيشة علمًا وعنوان ثقة في المنطقة كلِّها.

لدى معن طموح يلوح بالأفق وهو أن يستطيع إنشاء حديقة تصوير يؤمها العرسان والخريجون والشباب والأطفال وكلُّ من يرغب بتخليد ذكرياته ومناسباته، إلا أنَّ تكاليف هذا المشروع البسيط تقف عائقًا بينه وبين تحقيقه على أرض الواقع.  

معن وأمثاله من أبناء مجتمعنا الأقوياء بعزيمتهم وإرادتهم بمثابة درس يحث تعاجزنا عن تحقيق الطموحات، فنحن الأصحاء نسير بقدمين فتشتكي إحداهما للأخرى تعب الطريق، أما معن أبو عيشه فأثبت للعالم أنَّه ليس السعيد من امتلك كلَّ شيء إنَّما السعيد من سعد بما لديه.