د.مؤيد حطاب - النجاح الإخباري - ما زال عموم الفكر الإسلامي ترتعد فرائضه من كل طرح أو فكر جديد، خصوصا إذا تعلق بمفهوم الحريات أو المرأة أو المجتمع، ثم تجده يختبئ من مواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية العصرية المستمرة، إما بستار الموروثات  وإستحضار ما قرره السلف، أو بالاحتماء خلف العاطفة المجتمعية الرافضة بطبيعتها للتغيير كونه مستحضر أجنبي فاجر لابارك الله في جماله. وقد أعاد الفزع الديني الذي عايشناه مؤخرا من النصوص القانونية المقترحة، حول حماية الاسرة من العنف، إلى الأذهان موقف عموم الفكر الاسلامي من قاسم أمين. ففي منتصف القرن التاسع عشر، ساد المجتمع العربي تناغم مع منع المرأة من التعليم أو العمل، ناهيك عن حقوقها الاخرى، حتى هيئ لهم أن ذلك هو قمة الأخلاق والعيش الرغيد بأمن وسلام. وهكذا ساد الحال حتى أخذ قاسم أمين بالدعوة لحقوق المرأة خصوصا في التعليم والعمل، فثار الفكر الديني ثورته على تلك الأفكار التي كانت في ذلك الوقت تمثل خروجا عن النصوص الدينية القطعية وإنكارا لما هو معلوم من ثوابت الدين. تم مواجهة قاسم أمين بمطرقة أحكام الدين الثابتة، وسنديان إتهامه بالتغريب، وأن ما جاء به من بضاعة إنما هي فكر أجنبي يراد منها تحطيم الأخلاق، وهدم الأسرة والحض على الفسق والفجور، والعياذ بالله! ثم سارت عربة التاريخ حتى أصبح الآن حق المرأة في التعليم والعمل، وتقلد المناصب القيادية من المبادئ الاساسية التي حض عليها الدين وأمر بها، فسبحان الله الدائم على الدوام!.

هكذا هي دائرة التعاطي مع أي عمل أو فكر جديد سواء كان متعلقا بالمرأة أو الحريات أو غيرها من الأمور الإنسانية، تواجه بحرب دينية شعواء، ثم تخفت غالبا نيرانها إلى أن تتحول مع الزمن بردا وسلاما من عند الله على من جاء بها أو دعا اليها. وليس موقف الفكر الاسلامي حين تم تجريم جميع أشكال الرق والإتجار بالعبيد – الذي أطلقه سعيد باشا عام 1855مـ - عنا ببعيد، بل مازالت بعض الاصوات في يمومنا هذا تعتبر أن عودة الرق واجب ديني، ومن أصول الاعتقاد التي جاءت بها النصوص القطعية في الدلالة والثبوت. 

 المتابع للإعتراض الديني في عمومه على النصوص المتعلقة بمشروع قانون حماية الاسرة، يجدها لا تبعد أو تبتعد عن نفس ذلك النهج القديم/الحديث  في التعامل مع أي طرح قانوني أو فكري معاصر. فالدعوة الدينية لرفض المشروع جاءت معللة  بمصطلحات عامه، من مثل أن القانون مخالف لاحكام الدين القطعية، دون تحديد واضح لتلك المفاهيم، ودون أن يكشفوا لنا أين ورد النص الصريح القطعي الدلالة في القانون والذي يقابله نص ديني قطعي الدلالة والوضوح في مخالفته.

من حق أي شخص ان يعتقد ما يشاء، ومن حقه أن يعتبر أن المشروع القانوني المقترح هو مخالف لمعتقده وأفكاره الدينية، ولكن ليس من حق أحد أن يجعل من مسلماته الدينية وتحليلاته الفقهية، مقياسا وحيدا للحقيقة أو الحق الذي لا يأته الباطل بين يديه ولا من خلفه، ومن ثم فرض معتقده على عموم الناس. فقيام البعض بحصر النقاش حول المشروع المقترح، وفق موقفهم الديني الخاص، قد جعلت المتلقي يشعر أنه يقف أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن تعلن معهم أنك ترفض القانون حتى تبقى على دينك وتنجو، أو أن تخلع عنك رداء الايمان إذا قررت أن تقبل نصوص القانون المقترح! كما أن هؤلاء الذين يرفضون مشروع القانون من حيث المبدأ، ويكفرونه جملة دون تحديد أو توضيح، هم أنفسهم يصرخون بحقهم في نقاش مشروع القانون وعدم الجور عليهم أو إضطهادهم، بفرض القانون دون نقاش حوله. إنها لمفارقة غريبة أن يقوموا بالاعلان عن كون القانون بكليته مرفوض دينيا، ثم المطالبة في نفس الوقت بضرورة النقاش المجتمعي حوله! فكيف تطلب نقاش ما قلت مسبقا أنه مرفوض كليا بأمر السماء؟!  

إنني ارفض ان يمتلك أحد محددات ديني أو إعتقادي، وأرفض أن يدعي اي شخص أو مجموعة أشخاص أنهم يمتلكون وحدهم مفاتيح الغيب والتكلم بلسان الله. فرأيي الديني من النصوص هو حق خاص بي، كما أن رأي غيري هو حق خاص به، ولا يحق لأحد  منا أن يفرض رأيه على الناس، أو يعتبر نفسه وكيلا عن الله في نقل مراده وأحكامه. وعليه، فكل فرد يملك أن يعبر عن أفكاره، لكن لا يملك أحد أن يزعم أن تلك الافكار هي حقيقة مراد الله.

من جهة أخرى وجدنا البعض يسارع إلى الاحتماء خلف العاطفة المجتمعية، وأن القانون فيه دعوة صريحة  للفجور والفسق وهدم الاسرة على رؤوس جميع ابناء الوطن، ثم الاستدلال على ذلك بتحليل إفتراضي للنصوص، أو تحميل بعض النصوص ما لا يمكنها لغة او قانونا أن تحتمل،  أو عبر إستحضار اتفاقية سيداو المختلفة تماما عن القانون وربطها بالمشروع، أو تصدير نظرية المؤامرة وان العالم يجتمع الان حول شاشات المراقبة ينظر وهو عاض على أسنانه لحظة سقوطنا في شباك ذاك القانون الكافر، لعنة الله عليه!

النصوص القانونية لا تفسر وفق أحلام النائم في مربع نظريات المؤمراة، بل وفق معايير محددة، وقواعد  التفسير القانونية. كما لا يمكن إغفال أن القاضي الناظر في النصوص لا يعيش في كوب مستقل أو أنه قادم إالينا من الفضاء الآخر، بل هو إبن للثقافة المجتمعية التي تحكم نظرته وتلهم أفكاره. المتخوف من نصوص القانون، لما يشكله باعتقاده من نوايا خفية لهدم الاخلاق او تحطيم الاسرة، يغض الطرف عن حقيقة الحاجة لحماية الكثير من المستضعفين داخل بعض الأسر، ويتناسا أن الأسرة القابلة للإ نهيار لاتحتاج لقانون جديد حتى يتيح  لها الإنهيار. فالاسرة التي نخرها سوء الاخلاق والتربية، هي أصلا أسرة منهارة سواء وجد القانون او لم يوجد. بل إن صاحب  ذلك التخوف يريد أن يفرض علينا الوهم، الذي تمكن منه، بأن الاسرة العربية او المجتمعات العربية، تجلس على شفا هاوية من الانحدار، منتظرة فقط لحظة تقنبن ذلك الإنحدار.

إن الواقع الاكثر وضوحا وصدقا هو التجارب التي خاضتها الشعوب العربية، كالاردنية والمصرية والسورية وغيرها من الدول العربية، والتي أقرت قوانين متعلقة بحماية الاسرة من العنف، وغيرها من قوانين حماية المرأة، دون أن يشكل إقرارها أي تحول جذري أو حتى ثانوني في أخلاق المجتمع أوثقافتة، ولم يؤدي سنّها لتلك القوانين إلى إنهيار الاسرة او منظومة الاخلاق الشكلية التي يتمتع بها المجتمع العربي والإسلامي في تلك الدول.  

أمام ما سبق من معطيات، تجد في المقابل أن بعض المتحمسين لإصدار القانون يسوّقون أنفسهم برسول الأمة نحو الصلاح والتقدم، وأن إصدار القانون عبر قرار، دون نقاش بنوده بشكل علمي وموضوعي، هو الحل السحري الذي سينهي جميع انواع العنف الأسرية والاضطهاد القائم على أفرادها. إنهم يجعلون أنفسهم صاحب ولاية موازية، والأعلم بمصلحة الناس، ولديهم الحق المطلق الذين يمتلكون وحدهم فرضه، مما يجعلهم يمثلون نفس المنهج الذي يزعمون أنهم يعملون على محاربته. فأسوأ أنواع العنف والاضطهاد هو منع حرية التعبير. ولا يمكن أن يستقيم رفع الاضطهاد من خلال تكرس الديتاتورية الفكرية، أو إلغاء المنظومة الديمقراطية،  وإلا، كيف لنا أن نعاقب من يمارس العنف الاسري ، بينما نكرس الاضطهاد على جميع افراد المجتمع.

في التجربة القانونية للدول الغربية، التي يحاول البعض تصوير أنه يعمل على محاكاتها، لا يتم إصدار قانون إلا بعد أن يمر بمراحل من التدرج، عبر التوعية أولا، والنقاش العلمي ثانيا، والتدرج في التشريع ثالثا، ثم التطوير والبناء على ما سبق.  فمثلا، لم يتم تجريم ضرب الأطفال من قبل والديهم في بريطانيا إلا حديثا، حيث سبقها عشرات القوانين التدريجية حتى وصول مؤخرا الى التجريم الكامل لجميع وسائل الضرب والتعنيف. وفي كل مرة كان يرتفع سقف القانون كان يسبقه الخطوات السابقة من توعية ونقاش عام.  ولكن نحن نستأجر عربة النصوص القانونية وفق آخر موديل أجنبي، دون ان نمتلك رخصة القيادة، ناهيك عن ضعفنا الواضح في سياقتها، وبالتالي ما أن نبدأ السير حتى نستطدم بقوة جدار الواقع، وحقيقة تحطم العربة.

إنني أقف خلف أي فكر أو قانون سيسهم في تحقيق الحرية والعدالة، وفرض المساواة، ومنع العنف أو الإضطهاد، سواء كان ذلك في حق المرأة أو الطفل أو أي فرد من أفراد المجتمع. ولكني في المقابل، أعتقد أن نجاح أي مشروع للتطور أو التطوير، يجب أن يكون وفق معايير علمية مدروسة، ووفق الرغبة الحقيقية في الإصلاح والنهوض، وليس لجلب إسترضاء الآخرين، أو إستجداء المزيد من أموالهم.

هذا تعليقي من الناحية الشكلية لفلسفة القانون المقترح، أما من ناحية المضمون فالقانون المقترح، أجده بمجمله جدير بالتقدير، ويمكن البناء عليه، بعد تصحيح ما يعيبه من ضبابية في بعض التعريفات، وعدم وضوح بعض الأدوار الورادة فيه، كما يحتاج الى تصحيح التناقضات بين الهدف من القانون والعقوبات المفروضة التي جاءت في بعض مواده، وغيرها من المقترحات التي ليس محلها هذا المقال.  

 في المحصلة، أتفق على أهمية حماية الاسرة من أي عنف بحق أي من أفرادها، سواء كان مصدر العنف أو الاضطهاد منبثق عن أحد افراد الأسرة، أو من المجتمع المحيط بها، أو السلطة الحاكمة. ومن هنا يجب التوقف عن مفاجأة المجتمع بقانون وفرضه عليه بقوة القرار، دون أن يتم عرضه على جميع فئات المجتمع وفتح المجال للحوار العلمي حوله. ولكن ما نحتاجه أكثر هو  أن نمتلك الحد الادنى من التوافق على أولوياتنا القانونية، خصوصا تلك المتعلقة بتعزيز صمود المواطن، وإحترام كرامة وحرية الفرد، وفصل السلطات، وتكريس الديمقراطية والمساواة، وإحترام القانون وتنفيذ القرارات القضائية، وحق الحصول على المعلومة، ثم بعدها ننظر في التواقق على  غير ذلك من القوانين المختلفة.