نابلس - ماجد هديب - النجاح الإخباري - هي غزة، تلك المدينة التي توقفت فيها ساعة الزمن ،فتوقفت معها الحياة، لا شيء فيها نحو الصعود الا البطالة ،ومعدلات الجريمة ،وحالات الفقر والجوع، ومعاناة لا افق لها بالانتهاء ، وهي غزة التي ما زالت تتدحرج ايضا نحو الانحدار في السلوك ،الذي لا نهاية له في ظل احتلال وانقسام وحصار ،فغزة كانت وما زالت تئن ،ومن فيها يصرخ ،وهو هائم مثقل بالآلام والهموم ،لا وطن له ،وما عاد له هوية او وجود ، فأي عار يلحق هؤلاء الذين دفعوا غزة نحو ذلك ؟،واي صمت ذلك الذي ارتضى اهلها الالتزام فيه ،واي جريمة تلك التي ارتكبها هؤلاء بفعل ميكافيلية مشتركة لا ابرؤ احد من ارتكابها ،وفي مقدمة هؤلاء حركة حماس التي تسيطر على غزة وتتحكم بمفاصل الحياة فيها ،فما هي تلك السياسة التي تمارسها حركة حماس ،هل هي السياسة ذات الضوابط الاخلاقية التي دعا اليها الاسلام وحث عليها علمائه، ام انها تمارس السياسة الميكافيلية ،التي لا اخلاق بتفاصيلها ، ولا حتى قيم ؟.

الاخلاق والسياسة

كان أرسطو وافلاطون قد اتفقا على ان الأخلاق جزءاً من السياسة، وان "لا سياسة بدون أخلاق"، كما نادى الاسلام "بوجوب هذه الاخلاق كضوابط للسياسة التي يجب ان تحقق القدر الأعلى من صلاح الناس وتبعد الناس بتدابيرها عن الفساد" ،لأن الغاية النبيلة، ووفقا لآراء علماء الاسلام لا بد لها من وسائل مشروعة ونبيلة لتحقيقها بعيدا عن الخداع والتلون، ذلك لأن مصلحة الدين ثم الوطن مقدَمة على المصالح الشخصية والحزبية ، وبذلك نجد بان هؤلاء جميعا قد رفضوا نظرية "لا اخلاق في السياسة" ،وفقا لما جاء به ميكافيلي الذي يعتقد بأنّ الغاية تُبرر الوسيلة التي لا اخلاق فيها ولا قيم.

والميكافيلية هي نسبة للمفكر والفيلسوف والسياسي الإيطالي مياكافيليو الذي نادى بأهمية استخدام السياسي او الحاكم الوسيلة التي يريدها من اجل تحقيق الهدف ،ولذلك نجد بان الكثير من النظم الدكتاتورية قد اعتبرت هذه القاعدة الأولى التي يجب الانطلاق منها لتبرير الاستبداد وممارسة الطغيان والفساد الأخلاقي اثناء السيطرة على الشعوب بحجة تحقيق بناء الدولة وحمايتها ،وعليه كان هتلر قد مارس الاستبداد بذريعة الانتقال بالشعب الالماني الى المجد، في الوقت الذي ما زال فيه نظام الاسد يمارس تلك الدكتاتورية بذريعة بناء التوازن الاستراتيجي لتحرير ما اغتصبته اسرائيل ،فهل مارست حركة حماس القوة والتنكيل بذريعة حماية المقاومة استنادا للقاعدة الشرعية "الضرورات تبيح المحظورات "،ودون قواعد لتلك القاعدة او محددات ،ام انها مارست ،وما زالت تمارس ،تلك القوة على قاعدة لا اخلاق في السياسة وفقا لما نادى به ميكافيلي؟.

ما تعيشه غزة على أرض الواقع،ووفقا لمعاينة اي فعل سياسي لحركة حماس يؤكد وللأسف ، بانه لا وجود لأي علاقة بين الفعل السياسي والالتزام الأخلاقي ،حيث غالبا ما نرى الحزبية الضيقة في تلك الافعال المجردة ،وذلك لما تبيحه حركة حماس لنفسها من استخدام ما يحلو لها من وسائل لتحقيق أهدافها السياسية ،حتى لو داست بأقدامها على القيم والمثل التي استندت اليها في التعريف عن نفسها عند انطلاقتها كحركة مقاومة اسلامية ،وهي بذلك تتوافق مع كل ما جاء به ميكافيل.

كان ميكافيل قد اجاز للحاكم والسياسي تجاوز معانى الخير والشر من اجل بناء الدولة ،الا ان تلك الدولة الوطنية التي اجاز ميكافيل تجاوز الاخلاق من اجل بنائها لا مكانة لها عند حركة حماس التي لا تؤمن بها ،وان كل ما تقوم به من تجاوز كان وما زال بذريعة حماية المقاومة ،فهل ما زالت حركة حماس تمارس فعلا تلك المقاومة ،ام انها كانت بمثابة الوسيلة فقط من اجل الوصول الى السلطة ،فكان التخطيط للانقلاب عام 1994،ثم تنفيذ هذا الانقلاب بعد التمهيد له عام 2007 ،والاصرار على حماية هذا الانقلاب الى يومنا هذا ،في الوقت الذي ما زالت تبتعد فيه اكثر فاكثر عن الفضائل التي حثت عليها الشرائع السماوية ،والتي اصبحت لا اهمية لها عند حركة حماس ،فالغاية بالنسبة لها اصبحت تبرر الوسيلة التي دعا اليها ميكافيل.

نظرية ميكافيلي وتطبيق حماس

ان نظرة سريعة للمقارنة ما بين نظرية ميكافيل وما تمارسه حركة حماس ،فإننا نجد حالة من التوافق فيما بينهما من حيث تطبيق حركة حماس لكافة الوسائل التي جاء بها ميكافيل في نظريته ،ومنها وسائل الوصول الى السلطة واتباع طرق حمايتها ، مع اتخاذ كافة اجراءات عدم التنازل عنها ،حيث يعتقد ميكافيل بان السياسة هي ممارسة الممكن ،وهذا ما تتبناه حركة حماس الان في ازمتها السياسية بعد سنوات من الخداع والمراوغة ،فها هي ،وبعد الوصول الى السلطة تتحلل من التزاماتها تجاه شعارات المقاومة ،وها هي ايضا، ومن اجل حماية سلطتها تستخدم الدين للتحايل على الشعب ،كما تمارس الترهيب ضد كل من يعارضها ،او يحاول الخروج عنها ،وفقا لما دعا اليه ميكافيل في نظريته "من استخدام الدين والترهيب ضد من كل من يحاول الخروج عن الحاكم ، وذلك على اعتبار ان هؤلاء هم انه ناكرون للجميل، متقلبون، مراؤون وشديدو الطمع"، وان كانت حماس قد اضافت لهذه النظرية تهمة الخيانة والعمالة على كل من يحاول الخروج عنها لاتباع إجراءات أقسى مما نادى به ميكافيل نفسه ،ولعل ما جرى في تعامل حركة حماس مع حملة "بدنا نعيش "الا المقدمات لتنفيذ ما كانت قد اتخذته من اجراءات لمواجهة الفاعلين فيها في حال استمرارها .

اذا فان صور الخداع والتلون والمكر الذي نادى بوجوبها ميكافيل في نظريته لحماية السلطة هي نفسها التي تمارسها حركة حماس حماية لسلطتها وسيطرتها على قطاع غزة ، فبعد ان عملت على ضرب الوحدة الوطنية من اجل الوصول الى تلك السلطة ،وعمدت الى استخدام السياسة التي لا اخلاق فيها كوسائل لحمايتها ،فإنها لم تطبق شيئا مما كانت قد طرحته من شعارات قبل الوصول الى تلك السلطة ،وهذا ما كان ميكافيلي قد دعا اليه ايضا لقوله "كن كريماً إلى أن تصل إلى السلطة ،ولا بأس بالعودة لغريزتك الرئيسية وهي البخل".

اما عن الاجراءات التي اتبعتها حركة حماس للبطش في كل من يطالبها تطبيق ما وعدت به اثناء حملتها الانتخابية ،فإنها قد اتبعت ما نادى به ميكافيل " قمع كل من يحاول المطالبة بما وعد به الحاكم او السياسي للجماهير"،وذلك لتطبيق حركة حماس ما جاء في قوله " كن قاسياً، كن ظالماً، كن مكتسحاً" ،حيث اتجهت حماس نحو ممارسة هذا الظلم بالقوة حفاظا على السلطة التي وصلت اليها بشعاراتها التي كانت في ظاهرها لصالح الشعب ،وفي باطنها لمصالح حركة الاخوان المسلمين، ولحزبها ايضا ،ومصالحه الضيقة ،ولذلك اتجهت بعد ممارستها لتلك القسوة والظلم والاكتساح الى تنفيذ سياسة فرق تسد مع خصومها وفقا لما نادى به ميكافيل ايضا من حيث طرق التعامل مع الخصوم،حيث اوضح ميكافيل تلك الطرق بقوله"بانه لا يجب القضاء على الخصوم مرة واحدة، حالف بعضهم، وقم بالقضاء على الآخرين إلى أن تقضي عليهم بالتدريج، ولا تحاول القضاء عليهم مرة واحدة لأنهم سيتحدون جميعاً ضدك"، ولذلك جاء اعتماد حماس على قاعدة التدرج بإنهاء الخصوم ،فكان دحلان ،ثم اجراءاتها في القضاء على فتح في غزة ،وها هي الان في حالة اتباع اجراءات الخلاص من شرعية الرئاسة كمقدمة للانفصال تعزيزا للسلطة التي تتطلع اليها .

ما زالت تثبت حركة حماس بوسائلها المتبعة لحماية سلطتها في غزة بانها تفوقت على ما جاء به ميكافيل نفسه من توصيات ،وخاصة في موضوع افتعال الازمات الذي دعا اليه كل سياسي او حاكم تعزيزا لسلطته ، ولذلك كان اتباعها لتفجير تلك القضايا والازمات بشكل تفوق على طرح ميكافيل نفسه ،فجاءت الحروب الثلاث لتعود حماس بعد تلك الحروب اكثر قوة ،بفعل نجاحها ،ومن خلال تلك الحروب بدفع الجماهير نحو تغيير اولوياتها ،ثم جاءت بمسيرات العودة وكسر الحصار لتحقيق عدة اهداف ،وفي مقدمة هذه الاهداف افراغ ما في نقوس الجماهير من غضب على سلطتها الى افراغ غضبها في مواجهة المحتل من ناحية ،ولاستغلال الدم الذي سال وما زال يسير في هذه المسيرات لتدعيم معالم حكمها من ناحية ثانية وفقا لما نادى به ميكافيل من حيث دعوته الى الحاكم والسياسي "اعداد الخطط لتفجير قضايا تستطيع من خلالها اخراج جميع الشعب لكي يحتفلوا معك بالنصر وبنفس الوقت استهلاك طاقة الشعب، لأنك خلال عملك لهذه المشاريع العظيمة تجعل الشعب مذهولاً وتكون مسيطراً على عقولهم وتجعلهم دائماً مشغولين بالتطلع للنتائج، وبمجرد انتهائك من المشروع عليك أن تكون جاهزاً لإشغالهم بمشروع آخر حتى لو كان عديم الفائدة على المدى البعيد، وهلم جرا..! ".

دلائل كثيرة على مظاهر ميكافيلية حركة حماس ،بل ان حماس قد تفوقت على الميكافيلية نفسها في ابتداع الوسائل وطرح الخطط ومتابعة تنفيذها بكافة الوسائل التي لا اخلاق فيها ،فكم من خطة نجحت في جمع الشعب حولها مصفقا لقيادتها رغم ما حل بهذا الشعب من دمار في النفس والحجر والشجر،بل وبالقضية ايضا ،فها هو ما كان في الأمس القريب ممنوعاً صار اليوم مقبولاً، وما كان حراما اصبح ومن نفس علمائهم حلال ،حيث اصبحت المقاومة السلمية بالنسبة اليها ابداعا رغم تحريمها لمثل تلك المقاومة سابقا واستخفافها بالقائمين عليها ،وها هي ايضا مع الدولة الوطنية بعد رفضها وعدم الايمان بها ،وها هي ايضا تتحلل من علاقتها بالإخوان المسلمين بعد سنوات من تأكيد تبعيتها لمرجعيتها العالمية .

كثيرة هي تلك الدلائل ،وكثيرة هي ايضا تلك التساؤلات التي اصبحت ملحة، وعلى من يتبع حركة حماس الوقوف عندها ،فما هو تفسير حركة حماس لموقفها الازدواجي مما يسمى ثورات الربيع العربي ،ومن تبعيتها للأنظمة العربية بعد ان كانت تطالب جماهير تلك الانظمة بالثورة عليها ؟،وما هي آراء ابناء حركة حماس ايضا والموالين لها من صداقتها الحميمية الان من محمد دحلان بعد ان كانت حركة حماس قد تذرعت بان انقلابها على السلطة كان من اجل القضاء على خيانته وعمالته ؟ ،اليس كل ذلك وسائل خداع وتلون ومراوغة سياسية لتحقيق مكاسب مادية وإعلامية للحركة ،ولتحقيق الثراء لقيادتها على حساب الشعب والقضية؟.

يبدو ان حركة حماس التي تعيش في حالة غرور لتفوقها على الميكافيلية قد نسيت ،او ربما تناست اهم ما جاء به ميكاقيلي نفسه من وصايا لكل من اتبع سياسته "الغاية تبرر الوسيلة" ،وهي ضرورة الحذر من الهدوء الذي يسبق العاصفة ،وذلك في اطار ما جاء في "حكمة دوران الزمن" الذي قال فيها "ان الخطأ الشائع عند الناس هو انهم لا يحسبون حساب العاصفة عندما تكون الرياح هادئة"،ولكن ،ولأنني من هؤلاء الذين ما زالوا يعتقدون انه لا قوة للشعب الفلسطيني دون حماس ،ومن هؤلاء ايضا الذين يؤمنون بوجود بعض من يعقلون في قيادتها اوجه دعوتي لهم ،ليس بضرورة الحذر الذي اوصى به ميكافيل ،وانما بالتقاط الفرصة التي لم تلتقطها انظمة قد سبقتها بالانهيار وهي العودة لراي الشعب وقراره ،والا فانهم حتما الى زوال ،كما الذين سبقوهم بفعل ممارستهم المشتركة للميكافيلية السياسية ،التي لا اخلاق فيها، ولا حتى قيم .