عمر حلمي الغول - النجاح الإخباري - العقل السياسي في أوساط الدول والشعوب الممتدة على وجه البسيطة يختلف من دولة لأخرى، وخلفيات كل منهم متمايزة ومتنافرة أحيانا كثيرة لعدة أسباب منها: اولا- الواقع والموروث الإجتماعي الإقتصادي والثقافي والديني المختلف. ثانيا- مركبات النظام السياسي القائم، وتوجهاته الداخلية والخارجية، ومحدداته في العلاقة مع الآخر في الإقليم والعالم. ثالثا- موقع الدول والشعوب في المعادلات الدولية. رابعا- اختلاف الدول وشعوبها من حيث كونها دولة مستقلة أم تخضع للاستعمار القديم.

بالتأكيد هناك نواظم ومبادئ عامة تشكل مرشدا للفكر السياسي في أرجاء المعمورة. غير أن النخب السياسية تُّخضعها للسمات الخاصة في الواقع المعاش، أو بتعبير أدق خصائص الشعوب والأمم تفرض نفسها على البناء الفوقي ومحددات الفكر السياسي، وتؤثر في إنتاج فكر سياسي يتناسب مع أهداف ومصالح هذا الشعب أو ذاك.

وبعيدا عن الفرضيات العامة ومساقاتها التفصيلية، لو توقفنا أمام العقل السياسي الفلسطيني ونقيضه الإسرائيلي سنجد عقلين سياسيين متناقضين، لأن مركبات ومحددات كل منهما تصطدم بالأخرى للاعتبارات التالية: أولا- وجود روايتين متناقضتين حول الأرض والموروث التاريخي والديني. ثانيا- المنظومة السياسية لكل منهما تستند للشرط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني (وللدين في الرواية الإسرائيلية مكانة مركزية، بغض النظر عن طبيعة المشروع الاستعماري). ثالثا- موقع كل منهما في معادلة الصراع، عقل يخدم فكر الاستعمار، وعقل يدافع عن الحق التاريخي والعدالة السياسية والقانونية بالمعايير النسبية، ويطالب بإزالة الاحتلال، ويطالب بالاستقلال السياسي والاقتصادي. رابعا- تحالفات كل منهما مع الأقطاب والدول الأخرى في الإقليم والعالم. خامسا- حدود وسقف المناورة السياسية المرتبطة بالأهداف الإستراتيجية لكل منهما متباينة المحددات والمعايير، فالإسرائيليون لديهم مساحة واسعة لطرح كم من البدائل لتمرير مشروعهم السياسي، ولو حتى من موقع المناورة، وفي ذات الوقت محدودية وضيق مساحة المناورة على الصعيد الفلسطيني، لأنه محكوم بالدفاع عن الحد الأدنى من ثوابته الوطنية. ولا يمكن له المناورة أكثر، لأنه سلفا قدم كل الاستحقاقات السياسية المطلوبة على الطاولة، ولم تبق لديه مساحة لذلك. وفي حال اصطدم العقل السياسي الفلسطيني في جدار الاستعصاء الإسرائيلي، فلا يوجد أمامه خيار سوى العودة لنقطة الصفر مجددا ومربع "أن أكون أو لا أكون".

من هنا نلاحظ ان كثيرا من المراقبين والقادة السياسيين حين يلتقون بممثلي دولة الاستعمار الإسرائيلية ودولة فلسطين الواقعة تحت نير الاستعمار، يستمعون لمنطقين وعقلين متناقضين، الإسرائيلي يطرح عددا من الرؤى والأفكار، التي تبدو بالشكل وكأنها تحمل نوعا من "المرونة"، مع انها ليست مطروحة للتنفيذ، بل لكسب الوقت والمماطلة والتسويف للمضي قدما في الخيار الاستعماري. لكن على الجانب الفلسطيني، أي مراقب غير ملم او حتى في حال كان إلمامه بسيطا وضعيفا في جوهر الصراع، فإنه يسمع ثوابت محددة، لا يستطيع صانع القرار تجاوزها. وحين يطالب هذا الزعيم او ذاك من الطرفين "ضرورة تقديم تنازلات متبادلة"، يكون وقع في عدم إدراك معادلة الصراع، لأن العقل السياسي الفلسطيني مؤمن بصواب ما لديه، ولا يسمح لأي حد من المناورة التلاعب به، لأنه انطلق من حرصه على دفع عملية السلام، واستمع لنصائح الأشقاء الرسميين والأصدقاء او من في مكانهم، مما دفعه لتقديم سلة التنازلات التاريخية كاملة ومرة واحدة.

هذة المعادلة المعقدة ألقت ظلالاً كثيفة على العقل السياسي الفلسطيني من زاويتين: الأولى- ان الفلسطيني تعامل بمصداقية عالية مع خيار الحل السياسي لبلوغ الاستقلال السياسي الناجز لدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران عام 1967، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الدولي 194. لأن النخب السياسية النافذة في صناعة القرار تعاملت مع الموقف الإسرائيلي، الذي كان يبدي الاستعداد للحل السياسي شرط الاعتراف العربي والفلسطيني بالوجود الإسرائيلي على جزء من فلسطين التاريخية، الثانية غير ان المستعمر الإسرائيلي اخذس في المناورة والتهرب من استحقاقات التسوية السياسية، وفي ذات الوقت واصل توسيع وتعميق مشروعه الاستعماري على كل فلسطين التاريخية. وما عزز لدى العقل السياسي الإسرائيلي الاستعماري هذا الخيار، هو دول الغرب الرأسمالية، التي لم تستخدم اوراق ضغطها على إسرائيل، فضلا عن تواطؤ بعض العرب على القضية والأهداف الوطنية الفلسطينية، وبالتالي من خلال التتبع العيني والتفصيلي للعقلين السياسيين الفلسطيني والإسرائيلي، نجد التناقض العميق بينهما في مركبات ومكونات كل منهما. وما لم يفرز الوعي السياسي الإسرائيلي في اوساط المجتمع والنخب السياسية المؤثرة في القرار الإسرائيلي قوى راغبة ومستعدة لبناء ركائز السلام الممكن والمقبول، يصعب بلوغهما نقطة التلاقي عند القواسم المشتركة، التي حددتها مرجعيات عملية السلام، وقرارات ومواثيق الشرعية الدولية. وبالتالي سيتعمق الافتراق والتناقض التناحري العدائي، وإعادة الأمور لصراع الوجود لا صراع الحدود.