د. سائد الكوني - النجاح الإخباري - يتحتم على الإنسان أن يؤدي ما عليه من حقوق مثلما يُطالب بما له .. أن يقوم بواجبه تجاه وطنه ومجتمعه ومحيطه.. أن يتخذ موقفاً.. أن يقول رأياً.. أن يكون واضحاً.. أن يمارس حقيقة ما يؤمن به.. أن يذهب إلى قرارات حاسمة، ومصيرية، مهما كانت النتائج .. قلة قليلة يفعلون، وهم بذلك يكسبون احترامهم لأنفسهم قبل احترام الآخرين لهم. بلغة الروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله: "في كل إنسان قمة عليه أن يصعدها وإلا بقي في القاع مهما صعد من قمم"، أما بلغة علم الاجتماع والإدارة فتقول نظرية ماسلو إن الإنسان تحركه دوافع واحتياجات متعددة، اختُلف في ترتيبها ولكن اتُفق على أهميتها ليكون إنساناً يعيش في حالة اتزان وسلم داخلي وخارجي، أي أن يكون متصالحاً مع نفسه ومحيطه.

وقُسمت هذه الاحتياجات إلى خمسة؛ تبدأ بالفسيولوجية والتي تتعلق بالمتطلبات الأساسية اللازمة للحفاظ على الفرد من طعام، وماء، ونوم، وغيرها. يتبعها الحاجة إلى الأمن الوظيفي والمعنوي والأسري، والصحي، والسلامة الجسدية وأمن الممتلكات، ومن ثم الاجتماعية المتعلقة بالعلاقات العاطفية والاجتماعية والأصدقاء، يليها الحاجة لتقدير واحترام الآخرين والسمعة الطيبة، وأخيراً، الرغبة في تحقيق الذات والتفوق على النفس والعمل على إرساء قيم احترام النظام وتحقيق العدل وإحقاق الحق، وصُنع إنجازات خالدة.

وفي علم المحاسبة الإدارية، هناك ما يُعرف ببطاقة الأداء المتوازن (Balanced Scorecard) تُحدد بموجبها المهام التي تُناط بكل فرد يعمل في مؤسسة ما، ومطلوب منه القيام بها على الوجه الأكمل حتى يتسنى للمؤسسة تحقيق أهدافها؛ فلكل شخص أهميته ودور ينبغي عليه تأديته حتى تكتمل لوحة الإنجاز العامة للمؤسسة التي ينتمي إليها أو يعمل بها، تماماً كصور البزلْز (Puzzles Photos). تتطلع العيون إلى اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني الذي ينعقد اليوم، وتنعقد عليه الآمال باتخاذ قرارات مصيرية تُشكل رداً فلسطينياً حاسماً على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب "منح ما لا يملك من ليس له حق" بإعلانه القدس عاصمة لإسرائيل، وطلبه من الجانب الفلسطيني الرجوع إلى طاولة المفاوضات بعدما فرض وقائع جديدة على الأرض، أخرج فيها القدس من أي إطار تفاوضي لتسوية الصراع في المنطقة، في مخالفة واضحة وصريحة لقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بحقوق شعبنا التاريخية وانتهاك جسيم لمبدأ حل الدولتين، ولجوئه إلى حد التهديد بقطع دعم بلاده المالي لوكالة دعم وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بما يعنيه ذلك من استباحة لحق تاريخي من حقوقنا المشروعة، ألا وهو حق العودة باعتبار "الأونروا" الشاهد الحي على جريمة العصر بحق شعبنا وتشريده في شتى بقاع المعمورة، وفي ظل ما يُشكله هذا التهديد من ابتزاز سياسي للقيادة الفلسطينية في صورة مقايضة تلبية الاحتياجات الأساسية لضحايا التشرد من أبناء شعبنا في الخدمات الصحية والتعليمية والإنسانية الأخرى، بقبول العودة إلى مفاوضات عبثية خالية الوفاض.

في حقيقة الأمر، تتزايد الدعوات للقيادة الفلسطينية منذ القرار الأميركي بشأن القدس، إلى اتخاذ إجراءات حاسمة ترقى إلى مستوى الحدث، وجاءت الدعوة إلى عقد المجلس الأعلى لمنظمة التحرير الفلسطينية تبعا لهذه الدعوات؛ الشكر لوسائل التواصل الاجتماعي التي وحدت أجزاء الوطن المُحتل ولو افتراضياً وربطتها بسائر بقاع المعمورة، وأتاحت لروادها من داخل الوطن وخارجه أن يدلوا بدلوهم فيما يتوجب على "المركزي" الولوج إليه رداً على الصلف الأميركي والعنجهية الإسرائيلية تجاه حقوقنا التاريخية، وتنصب في غالبيتها باتجاه التصعيد، وقطع كافة أشكال العلاقة مع الأميركيين والاسرائيليين -وهو ما سيلقي بظلاله على جهات مانحة أخرى تأتمر بأمرهما- وصولاً إلى إلغاء أوسلو بكافة تفاهماتها، وكما يُقال لا يرد الصاع إلا صاعين. ما المانع أن يكون شعار المرحلة القادمة "لا تسقني ماءَ الحياةِ بذلةٍ، بل فاسقني بالعز كأس الحنظل"، ولمَ لا نُساهم جميعنا في شد أزر المؤتمرين، والتمركز معهم وإلى جانبهم؛ نقوي عزيمتهم، ونحثهم على اتخاذ القرارات الثورية التي نرغب في رؤيتها تخرج إلى حيز النور.

إنني مقتنع أن الشعوب هي صانعة القيادات وحاضنتها وموجهتها، وهي دائمة التقدم عليها في تحديد المواقف والأولويات، وهي بذلك تخط لها المسارات التي يتوجب عليها المُضيّ بها، وحالتنا الفلسطينية ليست استثناءً. بإمكاننا صون استقلالية قرارنا الوطني من الضغوط الناجمة عن المساعدات الأميركية التي تُناهز الـ 600 مليون دولار سنوياً.

لمَ لا تنخرط وتُخاطب كافة المؤسسات من نقابات وجمعيات وهيئات ومنظمات شعبية ومدنية وغيرها -لا يتسع المجال لذكرها هنا- أبناء شعبنا لربط الأحزمة على البطون استعداداً لسنين صعبة قادمة، فكرامتنا أغلى من أموال الدنيا. ولِمَ لا تُؤكد هذه الفعاليات نيابة عمن تُمثلهم رفضها لأية قيادات بديلة يدور الحديث عنها مع كل تهديد بالإقصاء تتعرض له قيادتنا الشرعية لتمسكها بالثوابت الوطنية.

لمَ لا نؤكد لأعضاء "المركزي" وقوفنا موحدين متمركزين خلف قراراتهم التي نُحب أن نسمع، وأننا أبداً لن نقول لهم ما قال بنو إسرائيل لنبي الله موسى (عليه السلام): "اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ"، بل نقول ما قاله الصحابي الجليل المقداد بن الأسود لرسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه قُبيل معركة بدر: "أمض لما أمرت به فنحن معك"، ولنُطمئن المجتمعين بأنه لن يخرج منا من يُزاود فيقول: "لستم خلفاء رسول الله ولسنا صحابته".

في ذات الإطار، لم لا يُسارع أصحاب المديونية العالية من مستحقات خدمات المياه والكهرباء، من غير المعوزين من فقراء ومحتاجين، إلى تسديد ما عليهم للصالح العام؟ ولتعويض أي نقصٍ محتمل في مساعدات خارجية قد تكون مشروطة بتنازلات لا يقبل بها شعبنا.

ولِمَ لا يُعلن من تمرسّوا عبر السنوات الطويلة الماضية في آليات التهرب الضريبي -تحت حجج ومسميات واهية واهمة- قرارهم الوطني الطوعي بدفع ما استحق عليهم من متأخرات ضريبية لميزانية سلطتنا العتيدة لتعويض أموال الابتزاز السياسي؟ ولِمَ لا يعزز الملتزمون بالدفع التزامهم حمايةً ودعماً لمشروعنا الوطني، وصون كرامة شعبنا ونيل حريته، دون أن يعني ذلك توقفهم عن المطالبة والسعي لإحلال التوسع الأفقي بدل العمودي للوعاء الضريبي، لتحقيق العدالة الضريبية، كما يُسمع هنا وهناك في الأروقة والمؤتمرات.

لِمَ لا يُعلنُ المنتفعون بغير وجه حق من المال العام، توبتهم وعزمهم على التوقف الفوري عن هذه الممارسات اللامسؤولة التي تستنزف الموازنة العامة، وتُسيء إلى تاريخ شعبنا وتضحيات أبنائه. ولِم لا نتبرأ من التحويلات الطبية الخارجية بأنواعها المختلفة كونها قد تُقيد مساحة قراراتنا الوطنية، ونسعى إلى توفير بدائل أخرى عنها لتخفيف آلام مرضانا وجرحانا. ولِمَ لا نتكاتف مع بعضنا في مواصلة العملية التعليمية، وتوفير سبل دعمها وطنياً.

ولِم لا يتنازل الكثيرون منا مؤقتاً عن امتيازاتهم المادية والعينية غير الأساسية دعماً للخزينة العامة، وحمايةً وتعزيزاً لاستقلالية القرار الوطني الفلسطيني في المرحلة الراهنة. ولِمَ لا يُشكل مغتربونا جماعات ومؤسسات تأخذ على عاتقها التعهد بسد أي عجز في الموازنة الفلسطينية قد ينجم عن حجب المساعدات المُسيّسة؟ ذلك، غيض من فيض لما يمكن أن نُقدمه دعماً وإسناداً للقرارات التي نتوقعها من جلسة المركزي، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، فإن وهنتم وهنوا. ختاماً، لست ممن يدّعون كمال النظام ومعصومية الساسة، فالكمال لله والعصمة للأنبياء، ولكنَّ غيري من الكتاب والنقاد لم يتركوا لي متسعاً.

إن المرحلة تُلزمنا القيام بواجباتنا والدور المُناط بكل منا ضمن منظومة بطاقة الأداء المتوازن التي أشرت إليها؛ تحقيقاً لأهدافنا الوطنية الجامعة وحمايةً لثوابت شعبنا. ولِنُعلِمَ أحفاد الأميركي أبراهام ماسلو أن هرمية نظريته لا تصلح في حالتنا الفلسطينية، فحاجاتنا الروحية ورغبتنا الأكيدة إلى تحقيق الذات ونيل حقوقنا الوطنية التي تخدم أجيالنا القادمة تسموا على حاجاتنا الفسيولوجية والمادية المحسوسة، وكما قال سيدنا عيسى المسيح (عليه السلام) "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان".