د. سائد الكوني - النجاح الإخباري -  

انتهت الاحتجاجات الشعبية التي استمرت نحو أسبوعين في العاصمة الأردنية عمان، وعدد من المحافظات الأخرى، بعد أن أعلن رئيس الوزراء المُكلف د. عمر الرزاز بوضوح عزمه سحب مشروع قانون ضريبة الدخل الجديد وعدم طرحه على البرلمان لإقراره. ذلك المشروع الذي فجر تلك الاحتجاجات التي أطاحت بحكومة هاني المُلقي وكادت أن تتعداها لتصل إلى حل البرلمان.

سياسيون ومسؤولون أردنيون كُثر يعلمون أنه وإن أمكن نزع فتيل الأزمة حالياً إلا أنها لم تنته، ويرجحون عدم مقدرة الأردن على تحمل تبعات التخلي عن برنامج صندوق النقد الدولي ووقف العمل بالخطط الإصلاحية التي يدعمها في ظل انحسار المساعدات الاقتصادية الدولية والإقليمية للمملكة شحيحة الموارد. وبالمحصلة فأبعاد القضية الحالية لا تتعلق بكرسي رئاسة الوزراء ومن يشغله، وإنما بما يتوجب عليه فعله بصرف النظر عن شخصه وفكره. وهؤلاء لذلك لا يلومون حكومة المُلقي على المضي قُدماً في سياسات اقتصادية تقشفية وخطط إصلاح مالية طالب بها صندوق النقد الدولي، ولكن يلومونها لفشلها في تقدير المخاطر المحتملة من تسريع وتيرة هذه الإجراءات وعدم تهيئة الشارع لها. ويعتقدون أن أكثر ما يمكن لرئيس الوزراء المُكلف عمله -وهو أحد وزراء الحكومة المستقيلة وخريج جامعة هارفارد وخبير اقتصادي سابق في البنك الدولي- إعلان التزامه بخطط سلفه مع طلبه تأجيل مهلة تنفيذها لعام أو بضعة أعوام، والتعامل مع العوامل الأكثر عمقا للاحتجاجات والإضرابات التي صاحبتها.

ويلحظ المُتابع للشأن الأردني في الآونة الأخيرة، وتحديداً منذ أواخر عام 2017، تحركاً في الشارع يطالب الملك بمكافحة الفساد ومعالجة التقصير الحكومي حيال ذلك، بما ساهم في ارتفاع مستويات الفقر والمديونية في المملكة، ومعاناتها من صعوبات اقتصادية تمثلت في ارتفاع الأسعار ومعدلات البطالة وفرض ضرائب جديدة. وفي حين تجلت للعيان الأسباب الاقتصادية لتلك التظاهرات، يُدرك كثير من المحللين السياسيين وصناع القرار الأبعاد السياسية الخفية لتلك الاحتجاجات، المرتبطة بالحالة السياسية الفلسطينية الراهنة.

لقد أعلن الأردن بقيادة الملك عبد الله الثاني، وبفعل مبادئه التي تنطلق من وصايته على المقدسات في القدس، وبنية بلاده الديمغرافية التي يُشكل الأردنيون من أصول فلسطينية فيها ما يقارب 65% من السكان، وفي أكثر من مناسبة، عن تمسكه ودعمه للقضية الفلسطينية وحلها وفق مبدأ حل الدولتين، لما له من تأثير على استقرار الوضع السياسي في الأردن، ويقطع الطريق على المخططات الصهيو-أميركية التي بدأت ترشح عن "صفقة القرن" المشؤومة، والتي تتساوق مع فكرة "الوطن البديل" التي لم تغب عن أذهان ساسة إسرائيل على مدار عقود.

هذا التوجه السياسي الأردني الثابت تجلى بترؤس جلالة الملك عبد الله الثاني وفد بلاده المشارك في القمة الطارئة لمنظمة التعاون الإسلامي حول القدس التي تداعت لها دول المؤتمر الـ 57 نصرةً للقدس في 13 كانون الأول من العام الماضي في إسطنبول بتركيا على إثر إعلان ترامب القدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، كما ترأس الملك أيضاً الوفد الأردني المشارك في القمة الاستثنائية الطارئة لمنظمة التعاون الإسلامي التي انعقدت في إسطنبول في 18 أيار الماضي للتداول في إجراءات الاحتلال القمعية بحق المشاركين في مسيرات العودة الأسبوعية من أبناء شعبنا في قطاع غزة، في غضون نقل السفارة الأميركية للقدس.

إنها توجهات سياسية تتعارض مع ما هو مطلوب من الأردن فعله ضمن المتطلبات الصهيو-أميركية للصفقة الرامية إلى إقامة دويلة فلسطينية في قطاع غزة، وضم معظم الضفة الغربية لإسرائيل، وذلك بعدما أوهم مُهندسو الصفقة أنفسهم بأنهم نجحوا في إخراج القدس من معادلة الصراع، بإعلانهم لها عاصمة لدولة الاحتلال. ومن هنا كان لا بد من الضغط على الأردن والعمل على انخراطه في متطلبات المرحلة لتحقيق التسوية المرجوة، والوسيلة بطبيعة الحال معروفة، ألا وهي تخفيض حجم المساعدات المقدمة له؛ والتي يعتمد عليها بشكل كبير لمساعدته في تحمل التبعيات الاقتصادية التي تتجاوز قدراته ذاتية، والناجمة عن تردي الحالة السياسية والأمنية في العديد من الدول العربية، وعلى وجه الخصوص العراق سوريا.

ولئن بدت الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها المملكة الأردنية، للوهلة الأولى، داخلية الطابع، فإنها سياسياً عكست عمق العلاقة السياسية الإستراتيجية التي تربط الأردن بفلسطين، وبيّنت أهمية استقرار الوضع السياسي الأردني للمنطقة ككل وفلسطين بشكل خاص، حيث إن ما يمكن أن يترتب على انعدام ذلك من تداعيات لن يكون مقصوراً على مستوى الحدود الجغرافية للمملكة فقط بل سيتعدها لدول الإقليم، كما أنها أرجعت الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي إلى حقيقته الراسخة التي حاول كثيرون من صناع القرار العالمي تجاهلها أو تغيرها، وتكمن في كونه صراعاً عربياً-إسرائيلياً، وجوهره القضية الفلسطينية، وأن لا استقرار في المنطقة أو العالم بدون حل عادل لها.

وكذلك، في الاحتجاجات رسالة هامة أيضاً إلى صندوق النقد الدولي بضرورة مراعاته لطاقات حكومات المنطقة العربية فيما تستطيع أن تتخذه من خطط اقتصادية ومالية إصلاحية وإجراءات تقشفية في بيئةٍ سياسية غير مستقرة سببها الرئيس الصراع العربي-الاسرائيلي الذي طال أمده وألقى بتبعات ومشاكل اقتصادية تفوق قدرة شعوب تلك الحكومات على تحملها.

وأما الرسالة التي حملتها احتجاجات الأردن لشعوبنا العربية، خاصة في دول الطوق، أن تكون واعية للأبعاد الحقيقية لمشاكلها الاقتصادية، وأن تلتف حول قياداتها للحفاظ على استقلالية الدول وسيادتها في مواجهة كافة أشكال المخططات الاستعمارية المرسومة لها، وبما لا يلغي حقوقها في المكاشفة والعتاب والمساءلة والمطالبة بالإصلاح من خلال الوسائل الديمقراطية المشروعة والمسؤولة.

يُسجل بكل فخر واعتزاز للمتظاهرين الأردنيين حرصهم على أمن وسلامة وطنهم، الأمر الذي بدى واضحاً في الشعارات التي رفعوها خلال تظاهراتهم السلمية والحضارية، وهتافاتهم الراقية والمنضبطة، متعظين بلا أدنى شك من التجارب المظلمة لما سُميّ بـ"الربيع العربي" في بعض الدول العربية المحيطة وغيرها ممن عانت ودفعت أثمانا باهظة من دماء أبنائها ووحدتها واقتصادها وتطورها وسيادة أراضيها. ويسجل أيضاً حنكة وحكمة العاهل الأردني الذي نجح باستقدام دعم مالي خليجي في قمة مكة التي عقدت قبل أيام، بما يسند شعبه وييسر الطريق أمام حكومة د. الرزاز التي تنتظرها مهام ثقيلة وتحديات كبيرة.