د. سائد الكوني - النجاح الإخباري - تناهى إلى مسامعي ما يدور من همسٍ بين زائري والدتي التي كانت ترقد في مستشفى رفيديا الحكومي بمدينة نابلس منتظرة دورها لإجراء عملية جراحية لها لكسر تعرضت له في حوضها، حيث بدا عليهم الحيرة من أمرهم وهم يتفكرون وبهمسٍ فيما بينهم يتسألون عن سبب عدم سعيي للتَحصُّلِ على تحويلة طبية من وزارة الصحة الفلسطينية لإدخالها احدى مشافي المدينة الخاصة، حيث من المفترض أن ذلك عليَّ هين. لا شك بطبيعة الحال أن مُنطلقهم في ذلك محبتهم لوالدتي وحرصهم على أن تنال الرعاية الطبية الأفضل والعناية الأحسن، وفي أذهانهم على ما يبدو أيضاً ما دُرج عليه الحال في مجتمعنا من ثقافة الانتفاع بما يمكن أن يكون متاح لك حتى وإن لم تكن بك له حاجه؛ يعني “اللي ببلاش كثر منه”.

للحائرين أو المُشككين، أذكر باختصار عبارة قصيرة حفظتها عن جدتي لوالدتي مُذ كنت صغيراً، تقول "حَملِتْهم على الكفوف ولا حسرتهم في القلوب". وللحقيقية لم أكن مهتماً بمعرفة معنى هذه العبارة التي كانت جدتي ترددها كثيراً، حتى تعرضت والدتي لجلطة دماغية قبل ثلاثة سنوات، دخلت على إثرها في غيبوبة لأسابيع، وإقامة في المشافي لأشهر، ومن ثم كتب الله عودتها لنا بشللٍ نصفي في جانبها الأيمن، وكُنا وما زلنا لله على حالتها من الشاكرين، حيث خَبِرنا مُنذ ذلك الحين معنى عبارة جدتي واقعاً مررنا به؛ فحمل والدتي على الكفوف هو علينا أهون من حسرتها في القلوب. وصرت وإخوتي وأخواتي في سباقٍ على خدمتها والعناية بها، ليس فقط طمعاً في رضاها والجنة، وإنما بقدرٍ لا يقل أهميةً لأننا أدركنا أنها سبب بسمتنا، وسعادتنا، وفرحتنا، ولَمّتنا؛ فكان حرصنا عليها هو في ذات الوقت حرصنا على كل ذلك.

وهكذا فلا متسع هنالك للتهاون أو تسجيل المواقف، وإنما القضية أنه بمجرد أن تم تشخيص وضع والدتي الصحي من قبل جراحي مستشفى رفيديا الحكومي، لم أترك وإخوتي طبيباً مختصاً عرفناه إلا واستشرناه في حالتها، ليؤكدوا لنا جميعاً على دقة التشخيص، وحسن اختيار المكان، الذي يعتبر متميزاً في جراحة العظام بفلسطين، وقد انتظرنا بالفعل أياماً ليأتي دور والدتي في موعدٍ مسائي متأخر، فغرفة العمليات في انشغال شبه دائم من ساعات الصباح المُبكرة وحتى ساعات المساء المُتأخره.

تلك حادثةٌ دفعتني للكتابة عن عشرات الرسائل التي ترد يومياً إلى ديوان رئيس الوزراء من مواطنين بحاجة لعلاج أو مساعدات طبية أخرى. وبتعليمات من رئيس الوزراء، تُعطى هذه الرسائل أولوية عن غيرها من المراسلات في الانجاز والمتابعة، وتتمحور في مُجملها بالمطالبة برفع نسب التغطية المالية لطلبات شراء خدمة من خارج مرافق وزارة الصحة (من مستشفياتٍ محلية أو خارجية)، أو طلب تغطية مالية لشراء خدمة خارجية لم يوافق عليها مُسبقاً من قبل وزارة الصحة الفلسطينية، وغالباً ما تتعلق هذه الأخيرة بحالات مرضية سابقة لتاريخ استصدار التأمين الصحي الحكومي الذي يلجأ المواطن الى عمله فقط عند الحاجة إليه أو كما يُقال بعد وقوع “الفاس بالراس”. وحسب إحصائيات وزارة الصحة فقد بلغت الكُلفة الاجمالية للتحويلات الخارجية خلال العام 2016 ما يُقارب 566,720,980 شيقل.

ويُشير تقرير وزارة الصحة للعام 2016 بأن عدد العائلات الفلسطينية المُشتركة في التأمين الصحي الحكومي في الضفة الغربية يبلغ 214,982 عائلة، أي ما نسبته تقريباً 40% فقط من مجموع عائلات الضفة الغربية التي يبلغ تعدادها ما يقارب 534698 (بمتوسط خمسة أفراد للعائلة الواحدة)، علماً أن كافة المواطنين في قطاع غزة مُعفيين إعفاءاً كاملاً من كافة رسوم الخدمات التي تقدمها وزارات وهيئات ومؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية بموجب المادة (2) من القرار الرئاسي الصادر بتاريخ 26/2/2007؛ ما يعني تغطية علاج مجانية بنسبة 100% من قبل التأمين الصحي لوزارة الصحة.

وبحسب نفس التقرير، بلغ مُجمل الايرادات العامة لوزارة الصحة الفلسطينية ما قيمته 121,316,838 شيقل خلال العام 2016، شكلت منها عائدات التأمين الصحي ما نسبته 27,6%، في حين بلغت نفقات الموازنة الجارية لوزارة الصحة الفلسطينية من نفس العام ما قيمته 1,711,900,000 شيقل، أي بعجز قدره 1,590,583,162 شيقل.

إن المعطيات أعلاه تُشكل بما لا يقبل الشك أو الجدل وجهاً من أوجه شعار عمل الحكومة الفلسطينية الذي يؤكد أن “المواطن أولاً”، كما وتُشير إلى مدى حرص واهتمام القيادة السياسية الفلسطينية الفائق بتطوير قطاع الصحة بما يخدم سرعة وفاعلية الاستجابة لاحتياجات المواطنين، ويُسهم في تعزيز صمودهم على الأرض الفلسطينية. وإنه ضمن هذا الاطار سعت وزارة الصحة عبر السنوات الماضية إلى توطين العديد من الخدمات الطبية الهامة للمواطنين داخل مرافقها الصحية، من خلال تعزيز الاستثمار في بناها التحتية وتجهيزاتها الرأسمالية، والعمل على استقطاب ما يلزم من كوادر طبية وفنية وادارية مميزة، ومؤهلة، وقادرة. 

وبالفعل فقد حققت وزارة الصحة على سبيل المثال نجاحات يُشار إليها بالبنان في اجراء عمليات زراعة الكلى في مجمع فلسطين الطبي، حيث أصبحت هذه العمليات تُجرى مجاناً للمرضى المحتاجين، بعدما كانت تُجرى في الخارج أو الداخل الفلسطيني بتكلفة تقدر بحدود 300 ألف شيقل، الأمر الذي بدأ يؤتي ثماره الطيبة في التخفيف عن كاهل موازنة الحكومة الفلسطينية، وبالتوازي في التوفير على المواطن لتكاليف سفر المريض ومرافقيه واقامتهم، ناهيك عن مشقة وترتيبات السفر وابتعاد المواطن عن أهله وذويه.

ليس الغرض من ذكر ما سبق من الاحصائيات توجيه كلمة شكر للحكومة الفلسطينية ممثلةً بوزارة الصحة، على ما تقدمه واجباً لا منةًّ منها لتخفيف معاناة المرضى من مواطنيها، مع أن تقديم الشكر لمن يستحقه يعتبر أيضاً واجباً، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله. ولكني أرى ضرورة العمل على تعميق مفهوم المسؤولية المجتمعية في ثقافتنا وتفكيرنا، بحيث يتكامل دور كلاً من المواطن والمسؤول في تأدية الرسالة المطلوبة في كافة قطاعات العمل والخدمة لأبناء شعبنا، لإن مسؤولية بناء الوطن والعيش الكريم فيه هي مسؤولية مشتركة.

إن تدني نسبة العائلات المُشارِكة في التأمين الصحي الحكومي، تتطلب منا جميعاً الوقوف عندها، نقاشاً، تشخيصاً، وبحثاً في آليات رفعها، لأن قيمتها الحالية تعتبر مؤشراً يدق ناقوس الخطر لواقعنا ومستقبلنا الصحي في ظل تفاقم شُح الامكانيات المادية من ناحية، وتعاظم احتياجات المواطنين الطبية من ناحية أخرى. وتزداد أهمية هذا المُؤشر إذا ما علمنا أن رسوم التأمين الصحي السنوية تبلغ في حدها الأقصى 900 شيقل للعائلة الواحدة بغض النظر عن عدد أفرادها، وغالباً لا يتم الوصول إليه بسبب إعفاءات متعددة. أضف إلى ذلك أن نسبة التأمينات الطوعية من قبل العائلات الفلسطينية تُراوح ألـــ 1% من إجمالي عدد العائلات المشتركة في التأمين الصحي الحكومي (بواقع 2662 من أصل 214,982 عائلة)، وما تبقى من نسب المؤمنيّن تُشكلها التأمينات الاجبارية لموظفي القطاع الحكومي والبلديات والمتقاعدين، وتلك المتعلقة بالشؤون الاجتماعية، والأسرى، والعقود.

وخُلاصة القول ان النهوض بالواقع الصحي الفلسطيني وتطويره يعتبر قضيةً تمس صحة وحياة كل مواطنٍ فلسطيني، أو أحد أقربائه أو معارفه إن عاجلاً أم آجلاً، وهي لذلك تتطلب تكاتف المواطن والمسؤول في تحمّلها وحُسن الانتفاع بها، على قاعدة الفرد للكل والكل للفرد، وبذلك يعم الخير على الجميع.