نابلس - د. مؤيد حطاب - النجاح الإخباري - د.مؤيد حطاب كرست عوامل مختلفة امتدت عبر مراحل الحكم العربي والاسلامي إلى ترسيخ العقل النقلي وجمود المعرفة، دون الفكر النقدي المعرفي. في هذه السلسلة أحاول البحث عبر التحليل النقدي عن أهم الاسباب التي ساهمت بذلك، وكيف تغيرت وسائل الفكر وطرق المعرفة في العالم العربي إلى أن وصلت لهذا الجمود الذي نشهده اليوم.

ذكرنا في المقال السابق أن رسوخ الفكر النقلي واستمرار وجود التعصب الديني والثقافي والاجتماعي للموروث النقلي قد ساند منظومة الاستبداد في العالم العربي على رفض التغيير. فالاستبداد يخشى من أثر دعوات المنهج النقدي والفكر الحر، لأنها ستدعم استقلال الفرد والمجتمع عن جميع أشكال التبعية والاستعباد، وبالتالي تفقد منظومة الاستبداد سيطرتها المطلقة على المجتمع. كما أن الانهيار السياسي المتعلق بغياب الديمقراطية، وفقدان المواطن لشعوره بأهمية صوته، يولد شعورًا عامًا ومستمرا لدى الباحثين والمفكرين بفقدان الأمل في التغيير أو التقدير، وبالتالي تؤدي تلك المنظومة الى مَسخُ العقلية الإبداعية القادرة على التفكير والإنتاج والتحليل. هذه المنظومة الشمولية التي بدأت عبر مراحل مبكرة في التاريخ العربي والإسلامي وتكرست عقب مراحل الصراع العربي مع الاستعمار الغربي والصهيوني، لم تسمح بحرية التعبير، وفرضت كامل سلطتها على الصحافة والاعلام، وتعدتها لتشمل مراقبة الاعمال الفكرية والأدبية وحتى الفنية. كانت النتيجة الحتمية لذلك التقييد هو عزوف مختلف الشرائح المجتمعية عن حقها في مراقبة السلطة الحاكمة وتقييم أدائها أو انتقادها، مما حرم الأمة العربية ودولها من الاستفادة من الآراء المتنوعة والمختلفة التي تمكنها من تصحيح اخطائها، وأفقدها ميزان الشفافية والمحاسبة حتى انتكاسات ونكبات متكررة، هزت وجدانها وأفقدها الثقة في بناء مستقبل أفضل.  

من هنا تكمن أهمية إطلاق الحرية الفكرية، والحق في حرية التعبير والكتابة والبحث، لكونها تمكننا من القدرة على طرح المسائل الشائكة في مختلف الجوانب، بشكل يدفعنا للنظر والبحث من جديد. فطرح الفكرة بأسلوب علمي وفق منهج العقل النقدي، (سواء اتفقنا مع النتائج أو اختلفنا معها) يفتح لدينا آفاق جديدة للنظر والتحليل والاستنباط. وهذا بطبعه يثري البحث العلمي ويلزمنا، بل يجبرنا، بالرد الموافق أو المخالف لذلك الطرح الجديد، فتتشكل لدى الأمم نهضة فكرية في فلسفة الوجود ودور الفرد في المجتمع والحياة، وفهم الآثار الدينية والاخلاقية، وصلتها بالإنسان والكون والعصر الذي يعيشه، كما ينتج ثورة علمية في مجالات الحياة الطبيعية والمختبرية، بحيث تدخل في سباق التنافس العلمي والإنتاج المعرفي والتدافع الحضاري مع الدول الأخرى.

بعد نهاية الاستعمار العسكري الغربي عن البلاد العربية، شهد معظم الدول العربية صعود أنظمة جديدة أخذت بيدها زمام أمور الناس ومؤسسات الدولة. وحين حاولت بعض تلك الأنظمة الانقلاب على الماضي وإنشاء حركة وطنية عروبية، تحت شعار الثورة على التخلف ونبذ الاستعمار، لم تستخدم تلك الأنظمة أي من وسائل نقل المعرفة وتطوير العقل النقدي، بل استغلت شعاراتها كغطاء لبسط المزيد من مركزيتها.  ولم يكن البديل المقابل، لتلك الأنظمة، سوى حركات أيديولوجية دينية، تمسكت بخطاب العودة إلى الماضي باعتباره وسيلتها الوحيدة لنقل العالم العربي من الانحدار، رغم افتقار تلك الوسيلة لأبسط أسس النقل الحديث. كما أن الحركات الايديولوجية العربية الأخرى لم تستطع أن تمثل أي بديل حقيقي أو ملموس في قلوب الناس يسمح بالتفاف شعبي حقيقي حولها، مما أبقى الساحة منغلقة على سلطتي الدولة والدين واللتان توافقتا على إبقاء النهج التقليدي وجمود المعرفة. فلم يكن الصراع بين الأنظمة العربية والحركات الأيديولوجية، وما زال كذلك، على أسس النهضة المعرفية أو دعم حريات الفرد، أو احترام حقوقه، أو حتى تكريس المواطنة والعدالة، بل هو صراع سياسي على الحكم من حيث الشكل، وإتفاق مشترك بينهما، من حيث الجوهر، على رفض الفكر النقدي، والسعي لإبقاء المنهج التلقيني والجمود العقلي، كونها العقلية الأكثر دعما لشرعنه وجود كليهما. ولعل المحنة التي تعرض لها المفكر نصر حامد أبو زيد، وما رافقها من تشهير وتكفير، لأوضح مثال على ذلك التوافق الجوهري بين سلطة الحكم الشمولي وسلطة رجال الدين. ففي سابقة من نوعها، قام بعض أبناء الفكر الإسلام السياسي بالتوجه للمحكمة للمطالبة بالتفريق بين نصر أبو زيد وزوجته بحجة انه مرتد، مستدلين على ذلك بأبحاث وكتب نصر أبو زيد والتي تبنى فيها المنهج العقلي والفكر النقدي. لم يرق ذلك الأسلوب النقدي لمن ران على عقولهم الجمود المعرفي وشريعة التلقين الحفظي حتى أرادوا تحطيمه عبر التشهير والتكفير. في المقابل لم تمنع سلطة الحكم الشمولية ذلك الاستبداد، واغمضت السلطة عينها عن حملات التكفير والامتهان، التي تعرض لها نصر أبو زيد في كل خطبة أو ندوة أو برامج إعلامية، حتى بات المجتمع بعمومه ينتظر لحظة الانتقام من ذاك الرجل الزنديق، لعنة الله علية! حين أعلنت محاكم التفتيش حكمها الشهير بتفريق الزوج عن زوجته بحجة الردة، هلل لذلك النصر منابر الجوامع وكبر الناس فرحا، وطربت اسماع الدولة لذلك التهليل والتكبير.

لم يكن ما حدث مع نصر حامد أبو زيد، سواء اتفقنا مع أفكاره أو اختلفنا معها، المثال الوحيد على ما يمكن أن يتعرض له كل من تجرأ عقله على التفكير النقدي، أو سطر قلمه ما يخالف الموروث. فمنظومة الاستبداد، بفرعيها السياسي والديني، التي رفضت، ومازالت ترفض، الحرية الفكرية والمنهج العقلي النقدي، تكرر نفس سياستها واسلوبها في تشويه ومحاربة وتكفير وحتى قتل أصحاب الفكر الناقد أمثال طه حسين، وعلي عبد الرازق، وقاسم أمين، وفرج فودة، وعلي الوردي، وغيرهم الكثير.

إن كلا السلطتين، أي سلطة رجال الحكم وسلطة رجال الدين، تخشى دائما من الحرية الفكرية، الذي سيصل حتما لنقد سياستها أو الخروج عن سيطرتها. وبالتالي تتبادل السلطتين أدوارهما على مسرح الاستبداد، فتقوم السلطة الدينية باستغلال عواطف الناس الدينية وتخويفهم من كل فكر نقدي او جديد، ثم تشهر سيف التشهير والتكفير على كل من سطر قلمه فكرا نقديا او جاءت كتبه بفكر مختلف عن تلك المورثات النقلية، وبالتالي تشغل الناس عن انتقاد فشل السلطة الدينية بتقديم أي بديل نهضوي. وتجد الأنظمة المركزية مغنما في ذلك التعصب الفكري، فتتظاهر انها ترفض التعصب بينما تتيح المجال لانتشاره وتوسعه، وتأدي دورها المعتاد في تسويق نفسها للناس بالمحافظ على الأعراف والمدافع عن الإسلام والتقاليد، وتضمن في نفس الوقت بقاء المجتمعات العربية مشغولة في مناكفات فكرية، بعيداً عن معالجة الأسباب الحقيقية لتأخرها واستعبادها، وبعيداً عن الانتقاد العلمي والموضوعي لفشل تلك الأنظمة الشمولية في حكمها.

 في الجهة المقابلة، كان الفكر السلفي الوهابي، في مرحلة التحرر من الاستعمار العسكري، منحصرا في الجزيرة العربية، ومَثّل التوافق الديني والسياسي على حكم الناس، وفق نهج المدرسة النقلية ومذهبها في الالتزام بالموروث من أقوال السلف، تراجعا في العلم والابداع، حتى تبعه تراجع في بعض المظاهر المدنية الحديثة. ثم أسهم اكتشاف البترول وارتفاع سعره في تلك الدول إلى توسع عمراني تبعه حملة نشر للمذهب السلفي في معظم الاقطار الاسلامية والعربية خصوصا في فترة الثمانينات وما بعدها. حيث ساهم توجه الناس من مختلف الأقطار العربية للعمل وطلب الرزق، إلى تسرب الفكر الوهابي لعقول الوافدين والقادمين إليها، كما قامت بعض تلك الدول النفطية باستخدام مخزونها المالي في نشر الفكر السلفي -على حساب المدارس العقلية- في جميع أقطار العالم خصوصا العربي. وبدل أن تُخَصص تلك الأموال الطائلة لدعم البرامج العلمية الحقيقية، ودعم مراكز البحث العلمي والمناهج الفكرية النقدية، قامت بعض الدول النفطية بصرف المليارات على تطوير المظاهر الشكلية، ودعم المطبوعات والرحلات الدينية، وتقديم المنح ودعم الجمعيات، التي تهدف لنشر المذهب السلفي المرتكز على السمع والطاعة، وعدم تجاوز الموروثات التاريخية لأقوال السلف وأفعالهم.

من ناحية أخرى، فقد شهدت مرحلة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، عودة ملموسة للتدين في بعض الدول الغربية وخصوصا الولايات الامريكية، كان من بين أسبابها الرد على الفكر الشيوعي الذي مثله الاتحاد السوفيتي. وفي الدول العربية، ساعد غياب الفكر النقدي وانتشار الفكر النقلي، بالإضافة الى الانهيار السياسي، والهزائم العسكرية والاقتصادية المتتالية للدول العربية، الى سرعة انتقال الصحوة الدينية التي اخذت بالبروز في أمريكيا إلى الوطن العربي، تحت مسمى الصحوة الإسلامية. كما أسهمت الحرب الأمريكية ضد نفوذ الاتحاد السوفيتي، والحاجة لصد الجيش السوفيتي في حربه على أفغانستان، الى دعم دول كثير لانتشار الفكر الديني المناهض للفكر الشيوعي السوفيتي. غضت معظم الدول العربية الطرف عن توجه الكثير من شبابها الملتحف براية الجهاد إلى خارج حدودها، للالتحاق بقطار الموت المتجه نحو أفغانستان، دون ان تدري تلك الدول أن شبح الموت الذي رافق تلك الرحلات سيعود بعد بضع سنوات ليجثم على صدورها.

أمام تلك المعطيات بات التساؤل عن أسباب تأخرنا وتقدم غيرنا، والذي أثاره رواد الفكر العربي على إثر صدمة الاستعمار لأراضيهم، بالخفوت حتى أصبح ذاك التساؤل من ثانويات النقاش الفكري الذي يهم العرب أو حتى مفكريهم. ولعل المسافة البعيدة نسبيا عن الصدمة الأولى، ودخول المجتمعات العربية بعد اعلان استقلالها في صراعات مختلفة مع واقع نظامها السياسي والاجتماعي، وفشل المحاولات الإصلاحية المختلفة، والشعور العام بوصول أشكال الحضارة الغربية بمظاهرها وقشورها المادية إلى العالم العربي؛ ربما أدى ذلك كله لجعل الأمة العربية تتعايش مع فكرة تأخرها وتتصالح مع واقع تقدم غيرها، حتى لم يعد ذلك مستفزا لضميرها.  

في المحصلة فان أهم أسباب التقدم العلمي والإنتاج المعرفي هو حرية الفكر، لأن العقل القادر على الخيال والإبداع لا يمكن له العيش أو النمو إلا في ظل ثقافة يسودها الحرية الفكرية وحق التعبير، والقدرة على الكتابة النقدية دون أي تقييد. فالمجتمعات التي تقيد حرية الكتابة والفن، تركن إلى الموروث وتفشي الجهل، وبالتالي تعجز عن تقديم العلوم الجديدة أو الأفكار النيرة التي تمد مجتمعها والعالم من حولها بالخير والصلاح. فكلما كانت الدولة بأطيافها المختلفة، متسامحة مع حرية التعبير، كلما كان الإنتاج العلمي والمعرفي مزدهرا ومتقدما، والعكس صحيح. فالأصل ان كل ما ينتج عن الإنسان من فكر او معرفة، وإن استفزتنا، تكون منطلقا للبحث لدينا عن الحق مهما كان نوع الفكرة ومهما هزت تلك المعلومة موروثاتنا أو مشاعرنا. كما ان التنوع الفكري وصدى الحريات، ومدى التسامح المجتمعي مع كل فكر جديد وحقيقة قبوله للغير، يجسد مدى حضارة المجتمع وتقدمه؛ بل يحدد هوية الشعوب من حيث قدرتها على التطور والإنتاج العلمي والمعرفي، وهذا كله لا يتأتى إلا إذا رافقه انتشار لمناهج البحث العلمي الحديث، والمرتكز على "نظرية المعرفة" والتي سنأتي لشرحها في المقال القادم.