نابلس - د.مؤيد حطاب - النجاح الإخباري - كرست عوامل مختلفة أمتدت عبر مراحل الحكم العربي والاسلامي إلى ترسيخ العقل النقلي وجمود المعرفة، دون الفكر النقدي المعرفي. في هذه السلسلة أحاول البحث عبر التحليل النقدي عن أهم الاسباب التي ساهمت بذلك، وكيف تغيرت وسائل الفكر وطرق المعرفة في العالم العربي إلى أن وصلت لهذا الجمود الذي نشهده اليوم.

في المقال السابق أشرت إلى أنه رغم كل التحذيرات التي سبق وأن أطلقها مفكرون وفلاسفة سابقون، إلا أن العالم العربي ساد فيه العقل النقلي، بدعم دولة الخلافة للمدارس غير النقدية وسيطرت العلوم النقلية، مما مهَّد الطريق لصعود الدولة العثمانية وبسط سيطرتها على العالم العربي والإسلامي بكل سهولة. فبعد أن قضت الدولة العثمانية على المماليك، وقيام السلطان سليم الأول بإقتياد الخليفة العباسي المتوكل الثالث، وتنازل الأخير عن الخلافة للسلطان العثماني، غربت  شمس الحكم العربي تماما وأُغلق السدار أمام خلافتهم. بسطت الدولة العثمانية كامل سيطرتها على الأقطار العربية، وبدأت مرحلة حكم جديد تحت راية الدولة العثمانية التي سعت إلى توسيع دائرة حكمها وإمتداد أراضيها. في تلك المرحلة كانت العقلية العربية والإسلامية قد إستقرت على العقل النقلي وإستسلمت لجمودها الفكري، فوجدت الدولة العثمانية ضالتها في ذلك الفكر التقليدي، كونه يدعم إستقرار سلطتها، ويمد من عضد سيطرتها.

في الوقت الذي كان الغرب مشغولا بتأسيس موارد نهضته، عبر مراجعة نقدية لموروثاته الفكرية، وتأسيس مدارسه العلمية القائمة على أسس جديدة مكنته من بسط سيطرته المعرفية والبناءعليها حتى يومنا الراهن؛ في ذاك الوقت كان جل همّ الدولة العثمانية بناء قوة جيشها من أجل بسط سيطرتها العسكرية وتوسيع أراضيها. وبالتالي حصدت الدولة العثمانية عبر تلك القوة المزيد من الثروات المادية، وتوسيع حدودها، لكن دون تطور حقيقي يذكر للعلم والمعرفة. فبدل أن تعمد الدولة الى تطوير العلوم العقلية والتجربية ودعم المناهج النقدية والمعرفية، عبر مختلف مراحلها الممتدة لأربع مئة عام، جعلت العلوم الدينية محطتها الأولى والأخيرة وإشتهرت الطرق الصوفية بألوانها المختلفة، وعززت المدرسة النقلية التلقينية، حتى إستفاقت على صوت مدفعية الغرب تهدم أسوارها وتحط على جميع أراضيها، متسلحة بتطور علمي هائل، ونقلة نوعية في العلوم الإنسانية، كان من الصعب صدها. ربما حاولت الدولة العثمانية، خصوصا بعد أن صدمها بعد المسافة العلمية عن ما وصل له الغرب، تطوير ذاتها وإستعارة العلوم والمناهج الغربية، وتقليدهم في تقنين القوانين وهيكلة النظم الإدارية، وإنشاء المستشفيات والمدارس وبعض أنواع العمارة وسكك الحديد وغيرها، كما تفعل معظم الدول العربية الآن. إلا أن تلك الإستعارة المادية من الغرب، إذا خلت من معالجة حقيقية لأسباب التخلف وإستنهاض فعلي لأسباب التقدم، فإنها ستسهم فقط في تغطية الحاجة المعيشية أو الشكلية، لكنها لن تنتج فكرا قادرا على الإبداع ومواكبة الدول الأخرى في تقدمها العلمي.

في المحصلة، أدت متلازمة الإستبداد والجمود الفكري، الذي لازم الحقبة العثمانية، إلى إتساع الهوة بين الاكتشافات العلمية التي توصل إليها الغرب، وتوقف عجلة التقدم في العالم العربي والإسلامي. ولم يتنبه العرب إلى تلك الفجوة إلا عندما حطت الحملة الفرنسية برحال الإستعمار على أراضيهم، وفي مقدمتها مصر وبلاد الشام. أثرت صدمة الاستعما،ر وإكتشاف المصريين والعرب عموما لحجم بعدهم عن التقدم العلمي والتقني مقارنة مع الغرب، على ثقتهم بما يحملونه من علوم وثقافة، مما جعل التساؤل عن الاسباب التي أوصلتهم الى ذلك التأخر يتصدر نقاشاتهم الفكرية، وبالتالي أخذ البحث عن وسائل نقل تلك العلوم وتعريبها تتصدر إهتماماتهم. بدأت البعثات العلمية التي أطلقها محمد علي باشا، وبعض دول المغرب العربي، تنطلق إلى الغرب، وتتالت رحلات العلم باتجاه دول غربية مختلفة من بينها إيطاليا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا، بحثا عن أسباب الثورة العلمية في أوروبا، وكيف تسلسلت الأحداث فيها حتى تمكنت من التقدم العلمي إلى أن وصلت لإحتلال بلاد العرب.

 وجدت تلك الحملات أن بداية النهضة في الغرب كانت كلمة ’إقرأ‘ وتدبر، مما أعاد إلى أذهانهم مرة أخرى صورة غار حراء الذي خرج من بطنه ’فكرة‘ أسست لنهضة. تلك الفكرة التي إهتمت بالإنسان وكرامته، وكان منهجها دعوة الناس إلى إعمال التفكير العقلي ونقد الموروث، هي نفسها التي أحيتها أوروبا حتى أوصلتهم إلى مقدمة الأمم. وبمحاولة لفهم ما حدث على أرض الواقع بشكل أوضح، وجدت تلك البعثات أن الغرب، خلال القرون الوسطى، كان يحكمه ثلاث قوى مؤثرة على الصعيد السياسي والفكري في المجتمع وهي: النبلاء ورجال الدين والملوك. وقد نتج عن ذلك صراع في بعض الأحيان بينهم، لكن كانت سلطة رجال الدين قوية بما يكفي لتحدي سلطة الملوك. لم تكن الكنيسة تتولى زمام الحكم كما قد يتصور البعض، بل كان دورها القوي مستتر بتعاليم الدين ووجوب طاعة الله. ولأن تعاليم الدين تتعلق بكل مناحي الحياة بما فيها السياسة والعلوم والثقافة، فوجب الخضوع لأوامر الله في كل تلك الجوانب. وعندما تنازع بعض المفكرين والعلماء مع رجال الدين، قامت الكنيسة بإسكاتهم عبر إتهامهم بالزندقة، أو السحر والشعوذة. فقد كانت تلك التهم سلاح الكنيسة الذي يمكنها من كسب تعاطف العوام مع ما تقوم به من إضطهاد في حق الفلاسفة والعلماء؛ فرجال الدين هم وحدهم من يستطيع فهم الكتاب المقدس، وإيصال إرادة الله وحكمه الوارد فيها إلى الناس، وبالتالي وجب على الجميع أن ينصاعوا لتعاليمهم وتفسيراتهم الدينية.

بقي عدد اصوات المفكرين الرافضين للعقل النقلي أضعف من أن يحدث تغيرا ملموسا في العقل الجمعي للمجتمع، حتى تم نقل أفكار إبن رشد إلى أوروبا، والتي لاقت ترحاب كبير بين أوساط المفكرين والعلماء. كما رافق تلك المرحلة إتصال مباشر بالفكر الاسلامي عبر الاندلس ومن ثم نقل العلوم إلى أوروبا وترجمتها بلغاتهم المختلفة مما ساهم بتشكيل قاعدة واسعة من المفكرين والفلاسفة، تسعى للتغيير الشامل في المنهج العلمي ووسائل المعرفة. وبعودة إتصال الغرب مع فلاسفة اليونان والأغريق كأرسطو، والتي نقلها لهم إبن رشد وغيره، بدأ الغرب يعيد تقييم مصادر المعرفة لديه ويعيد إتصاله بالمنهج النقدي الذي يؤمن بالعقل والنموذج التجريبي للعلوم. بالطبع حاربت الكنيسة هذا التحول، وسعت عبر نصوص الكتاب المقدس وأقوال السلف الصالح، الضغط على عواطف الناس لصد القادم إليهم من الشرق الكافر، وضرورة قمع تلك الحركة التنويرية. لكن بعد خروج أوربا من قفصها وإتصالها مع العالم الخارجي، عبر رحالات إستكشاف أو عبر الحملات الصليبية التي تتالت على العالم الإسلامي، وبإتساع طبقة المفكرين وتوافقهم على ضرورة التغيير الفكري وإنخفاض تعرض الدولة لحريتهم الفكرية، أخذت دائرة العلوم المعرفية والمنهج النقدي تتسع حتى صارت ظاهرة عامة توافق عليها العقل الجمعي للمجتمع الغربي.

قبل أن ينطلق الغرب في تطوير العلوم الطبيعية، إهتموا أولا بالعلوم الإنسانية، التي ركزت على مفهوم الانسان ومعاني الانسانية التي بدأت بحرية الفكر والكرامة الفردية وتحرير العقل، ووضع القواعد العلمية والمنهجية البحثية الساعية الى توسيع مصادر المعرفة ومداركها. ومع نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، كان لفلسفة ’ديكارت‘ في ضرورة الشك من أجل الوصول الى الحقيقة، دور كبير في نشوء عصر التنوير في أوروبا.  وفي عصر التنوير الذي كان يسلط الضوء على الأصالة الفكرية وضرورة الإنفصال عن الماضي النقلي، والبحث عن الحقيقة بغض النظر عن مصدرها، إنتشرت في أوروبا الحركة الفكرية للتنويريين. كما شهد عصر التنوير الذي أسس لعصر النهضة، إنتشار واسع للصالونات الأدبية، وتم إطلاق الموسوعة والقاموس للعلوم والفنون والحرف اليدوية. وشهد تلك الفترة نقلة نوعية بنظم التعليم بالإضافة الى حضور الثورات الشعبية التي هدفت لتحطيم أصنام الإستبداد ونشر الحريات مستلهمة حركتها في تلك الفترة من أفكار الفلاسفة التنويرين أمثال ’فولتير‘ و’رسو‘ و’كانط‘ و’ديفيد هيوم‘ وغيرهم. وفي عصر النهضة الممتد حتى نهاية القرن التاسع عشر أخذ الغرب بتوثيق علومهم وإكتشافاتهم  خصوصا مع بداية القرن الثامن عشر، والذي شهد عصر الجمعيات العلمية، كالجمعية الملكية في لندن وأكاديمية العلوم بباريس، مما أسهم بترويج المنافسة العلمية لديهم. كما شكلت تلك الحقبة بداية تطور مفاهيم الديمقراطية، والعدالة وحقوق الانسان، وأسهمت في إطلاق الحريات السياسية ومبادئ المساواة، وتعزيز مفهوم فصل السلطات، وحق الشعب في إنتخاب ومحاسبة السلطة الحاكمة.

بتلك الحقائق عادت البعثات العلمية إلى دولهم في مصر والشام والمغرب العربي، مطالبة بضرورة الاهتمام بالفرد وإطلاق الحريات، وإصلاح التعليم واستخدام المنهج النقدي والمعرفي، دون النقلي، للتغلب على واقع إنهزامها المعرفي والعلمي أمام الغرب. فكيف تعامل المجتمع والدولة مع تلك الأفكار، وهل حققت تلك البعثات ما كانت تطمح له؟ هذا ما سنعرضه بالمقال القادم.