النجاح الإخباري - كتبت أ. فايقة الصوص من قطاع غزة :
عبر الحاجز ..
من جنوب قطاع غزة إلى شماله، والذي يفصل بينهما وادي غزة المُجَفَّف، وبالتحديد من "جمهورية البريج" العنيدة إلى "جمهورية غزة" العتيدة كانت رحلتي بالتُّكتوك رفقة أبنائي وبعض أقاربي عبر شارع صلاح الدين . ..
الطريق مكشوف على مد البصر ، دمار يتلوه دمار ولا شيء إلا الدمار .
ما من حاجب للرؤيا.. أبداً !!
فقد أزالت آلات الحرب المدمّرة كل العوائق التي كانت تضع حدّاً لامتداد البصر ..
فأضحت جميع البنايات من عمارات ، فيلات، معارض، مصانع، معاصر زيتون، ورشات حدادة ونجارة، مدارس، كليات، جامعات، صالات ركاما بعدما سُوِّيت بالأرض ..
كما تم اقتلاع وحرق جميع الأشجار التي كانت تعطي للطريق روحاً وبهجة، فلا كينيا، لا حقول زيتون، لا بيارات ولا كروم أعناب ولا نخيل.
لقد وضع الاحتلال حاجزاً عسكريا قبل مفترق نتساريم .. ذلك المفترق الذي اعتدنا على المرور من خلاله إلى مدينة غزة بأمان وسلام منذ انسحاب قوات الاحتلال قبل ما يقرب من عقدين .
وهذه هي المرة الأولى التي أمرُّ فيها من حاجز عسكري للتفتيش وسط القطاع منذ ان عدت من غربتي إلى أرض الوطن عام 1995 بعد اتفاقية أوسلو ..
اليوم، وبعد الهدنة، وضمن إجراءات مُتَّفق عليها، أصبحنا ننتقل من شمال الوادي إلى جنوبه ضمن إجراءات تشبه السفر بين دولتين مستقلتين !!!!
قاطرة المركبات تسير ببطئ شديد أمام الحاجز، تنتظر دورها للفحص الأمني بواسطة أشعة Xray
اقتربنا من الحاجز المُضاء بأعمدة الكهرباء على مدار الساعة، والذي أراه الآن للمرة الأولى ؛ سواتر طينية وضعتها جرافات الاحتلال على جانبي الممر الضيق حديث الإنشاء والمؤدي إلى الحاجز ..
عن اليمين، أي شرق الشارع، ومن مكان غير بعيد تلة كبيرة من الردم والطين تعتليها دبابة توجه فوهة مدفعيتها باتجاهنا، وتلة أخرى عليها علم لا اعرفه ..
دخلنا الحاجز ؛ استقبلنا جنود مصريون، بلباس أسود، يخفون ملامحهم بكمامات سوداء، وعلى صدورهم ما يدل على رمز مهمتهم؛ عَلَما دولتي مصر وقطر ، وشريط من القماش مطرز عليه مُسمّاهم: "اللجنة القطرية المصرية"
هذا المشهد أعاد إلى ذاكرتي زمن الوصاية المصرية على قطاع غزة قبل نكسة حزيران 1967
أما الجنود الامريكان، فهم يتمترسون بأسلحتهم خلف مكعبات إسمنتية، يوجهون إلينا كاميرات التصوير ، يُقال انهم مارينز، إنهم طِوال ، عِراض، أقوياء البنية، العقدة تعلو جباههم، كأنهم البُعبُع، أما نظراتهم فتخفيها نظاراتهم السوداء،
استفزني مشهدهم المُريب، وواقعنا المأساوي، الأكثر ريبة، حيث أُضيف بنص الاتفاق إلى "جمهورية غزة العظيمة" تواجدا امريكياً جديداً مسانداً للاحتلال الإسرا.ئيلي.. وكأنه كان ينقصنا احتلال آخر!!!!!!!
وقبل دخول المركبات للفحص يجب تفريغها من الركاب، ليلتقوا بمركبتهم بعد فحصها على رأس طريق إلتفافي طوله حوالي 200 متر ،
وحيث يُسمح للمرضى والمسنين بالبقاء في المركبات، فقد وجدتها فرصة، لأرى ما يكون، فبقيت على متن التُّكْتُك مع السائق وامرأة مسنة من أقاربي ..
دخل التّكتوك بنا عبر جهاز الفحص الأمني بواسطة أشعة Xray
أصدر الجهاز فلاشتاته الحمراء، وزعق بزاموره الذي يُصدره بنسق معين، والذي لا أفهمه، ولكنني فهمت أن هذا النَّسق من الزامور يثبت براءة المركبة ومن فيها من أي شُبهة أمنية !!
كان الأمريكان خلف المكعبات يراقبون نتيجة الفحص، بينما المصريون يقومون بمهماتهم على الأرض ..
هكذا انتهى الفحص .. ودَّعَنا المصريون
بكلماتهم اللطيفة وتمنوا لنا السلامة.
مشى بنا التكتوك ، ثم التقى بنا أبنائي وأقاربي، وأخذنا طريقنا إلى غزة ..
لن نمر هذه المرة بالطريق المُعتادة عبر شارع صلاح الدين، لقد بات هذا الجزء من الشارع ضمن الممنوعات علينا ...
لذا فقد سلكنا طريقاً إلتفافياً محفوفاً بسواتر طينية عن جانبينه، فتحه الاحتلال حديثاً،
يبدأ الطريق من جسر الوادي ويلتف يساراً، ثم يميناً ، وتكثر الالتفافات، عن اليمين تارة ، وعن اليسار تارة أخرى عبر أراضي قرية المغراقة ولا خيار لنا في تغيير الطريق، حيث السواتر وحدها تحدد لنا مساراً إجبارياً يبلغ طوله حوالي 4 كيلو متر ..
وعلى طول هذا المسار اخذنا نلتفت يميناً وشمالاً ، نحاول ان نحدِّد موقعنا على الأرض، أو نتعرف إلى مَعلمٍ من معالم مدينة غزة التي نحفظها كما نحفظ أسماءنا، ولكن للأسف لم نعثر على ما يدلّنا ؛ لا بالتحديد ولا بالتقريب !!!
فالكل يجتهد مشيراً إلى كومة من ردم، قائلين:
_ هناك جامعة الإسراء ..
_ لا بل هذا مكان المستشفى التركي ..
_ له يا راجل ، هذا الشارع يؤدي إلى شارع 10
_ أعتقد أن هذا الشارع يؤدي إلى الشيخ عجلين، وعند آخره بائعي البلح ..
لم يتفق احداً من الركاب العشرة على أي مكان، وأنا معهم، فلا مَعلَم يؤكد صدق اجتهاد أيٍّ منا !!
وأخيراً .. وبعدما ما قطعنا مسافة تُقارب ال 4 كيلو متر عبر مسار لم نعهده من قبل، وبعد حيرة كبيرة، وذهول أكبر، وبعد وجع ينخر في أعماق قلوبنا، خرجنا من بين السواتر إلى فضاء مفتوح، وأصبح بإمكاننا ان نحدد الطريق الذي نسلكه، عن اليمين شرقاً ، أو عن اليسار غرباً ، ولكننا لا نعلم أين نحن من خريطة غزة المدمرة !!
سلكنا بالتكتوك طريقنا يميناً نحو الشرق...
يا الله !!!
وأخيراً ظهرت لنا بقايا صالة النجوم للأفراح، حينها فقط عرفنا أننا في شارع 8
أكملنا سيرنا حتى نهاية الشارع، وعرفنا أننا في مفترق "دُوْلَة" المدمَّر بشكل موجع ، هذا المفترق الشهير في حي الزيتون بمدينة غزة، كنا نصله من البريج في خمس دقائق، اليوم احتجنا إلى ساعتين لنصل إليه !!
المهم أننا استطعنا ان ننطلق منه إلى قلب مدينة غزة ، ثم إلى حي الشيخ رضوان الذي نريد.
كانت قلوبنا تزداد انقباضاً منذ بداية الرحلة، ومع كل خطوة نمشيها ابتداء من مخيمنا "البريج" إلى أن وصلنا مفترق دُوْلة بعد ساعتين وسط دمار يصعب على أعتى مخرج سينمائي تصويره ..
هكذا دخل شعبنا مرحلة من حياته عنوانها الجور والفناء بأقسى معانيه !!
فيا حزننا على حالنا، وعلى غزَّتنا العريقة التي تحولت إلى أطلال !!
الثلاثاء 4 فبراير 2025